“رمز” للخصوبة، والأمومة، والترابط الأسري، ولصورة الإنسان الذي يحتوي غيره. حبًا، وحنانًا، وعطاء. “الماتريوشكا”
“الماتريوشكا” (Матрёшка) تصغير كلمة “ماتريونا” الروسية، أو “ماطرونا” اللاتينية، وتعني (بالعربية): سيدة وجيهة، أو أم لعائلة. دمية خشبية بيضاوية مجوفة. تتكون من جزئين علوي وسفلي. ويوجد داخلها عدة دمى شبيهة بها. لكن أقل حجمًا، وعددًا (ثلاثة فأكثر، وغالبًا ما يكون فرديًا). ويمكن اللعب بها (تُسمّى أيضًا “بابوشكا”) بفتح الكبيرة واستخراج ما في جعبتها، وصولًا لأصغر دمية من جزء واحد فقط. وعلي سطحها الخارجي يوجد رسم تقليدي علي شكل سيدة ترتدي زيًا ريفيًا روسيًا “سارفان”. وتحمل بيدها الورد أو سلة أو خبزًا. ومع مرور الوقت تنوعت تلك الرسوم، وتعددت. فيمكن أن تكون الدمى الداخلية مرسومة بصور رجال أو أطفال، وأقارب لعروسين الخ. وتصنع حاليًا دمى عليها رسوم مشاهير الثقافة، والأدب، والسياسة، والفن، والرياضة وغيرهم. وغالبًا ما تتناول الدمى موضوعًا متصلًا، لكن يختلف حسب تنوع الشخصيات.
تاريخها – الماتريوشكا
لا يعرف -علي وجه الدقة- مصدر وتاريخ نشوء هذه الدمية. ويعتقد بأنّها أتت إلى روسيا من اليابان. وكانت صورتها تمثل الحكيم الياباني “فوكورومي”. وتألفت من ثلاث قطع متداخلة. وصنعت في روسيا لأول مرة، عام 1890، من قبل “فازيلي زفيوزدوشكين” Vasily Zvyozdochkin. فجاءت هذه “الماتريوشكا” -التي قام بزخرفتها الفنان “سيرغي ماليوتين”- من ثمان قطع متوالية بصور فتيات وشباب. وكانت الأصغر فيها على صورة طفل رضيع. وتحكي مذكرات “زفيوزدوتشكين “أنه:”لم يسبق له رؤية لعب يابانية مزخرفة.
ويقال أن قصتها ترجع إلي أن فنانين روس كانوا يصنعون بيض عيد الفصح الجوفاء القابلة للانفصال. أو تعود لحكاية قرية روسية فقيرة كان أطفالها يتضورون جوعًا، وتوفي بعضهم. فصنع لهم الأهل دمى خشبية بداخلها دمية صغيرة يتسلون بها، وتكريمًا للأطفال المُتوفين. وتقول رواية أخري: “أن فتاة صغيرة نحتت عددًا من الدمى المتفاوتة في الحجم ورمزت لكل واحدة منها إلى أمها وجدتها وأختها ونفسها وفتيات أسرتها”. ومن ثم صار الروس يزخرفونها، ويبيعونها. وغدا الرسم عليها، بألوان زاهية، أكثر جمالًا وتنوعًا، يتوافق مع خيال الرسامين غير المحدود.
وانتشرت كرمز للفن الشعبي الحرفي الروسي، وما زالت إلى اليوم. وفي عام 1900 حصلت “الماتريوشكا” على الميدالية البرونزية في معرض باريس الدولي. مما شجع علي انتشار صناعتها في مختلف أنحاء روسيا. وفي عام 1922 ظهرت في الأسواق أول “ماتريوشكا” من ورشة “نقوش سيميونفسك ” وصارت مشهورة عبر العالم. وفي معرض “ايكسبو- 70” بطوكيو تم عرض أكبر “ماتريوشكا” مكونة من 72 قطعة.
فن الصنعة
تصنع “الماتريوشكا” من خشب الأشجار الناعم (الزيزفون، والصندل، والبتولا وغيرها). وهي، عادة، اسطوانية الشكل. كما يمكن صنعها على شكل كرة أو مخروط أو علبة أو غلاف لقنينة. ويبقى الشكل التقليدي، والعدد المكون من 3-7 قطع هو الاكثر انتشارًا.
كما يختلف طرازها حسب الصانع، لكنها عادةً ما تمثل المرأة الروسية الريفية باللباس التقليدي سارافان Sarafan. إلا ان شكلها -الحالي- بات متنوعًا. حيث ترسم عليها مناظر طبيعية روسية وشخصيات أسطورية إلى جانب افراد العائلة. وهناك دمى “ماتريويشكا” تتصف بالفكاهة والطرافة، مما يعتبر تنوعًا عن التقليد القديم الذي يقضي بأن تكون عنوانها المرأة وليس الرجل.
وحاليًا. تقوم بعمل الماتريوشكات مصانع، وورش خاصة، لكل منها طابعه المميز. وتقطع الأشجار عادة في بداية الربيع، ويرفع عنها جزء من القشرة الخارجية لمنع حدوث تشققات فيها في أثناء التجفيف. ثم توضع الأخشاب في مستودع جيد التهوية لاكمال عملية التجفيف (لعام أو عامين). ويتعرض قالب الماتريوشكا لأكثر من 10 عمليات حرفية. فيباشر بالصنع قبل جفاف الخشب كاملًا. وتصنع أصغر الدمى أولًا، ثم الدمية الأكبر منها. وكل قطعة تقسم لجزئين علوي وسفلي. ويتم “تجويف” الجزء الوسطي منهما لتسع للدمية الأصغر منها. وهكذا، دواليك، حتي الإنتهاء من صناعة العدد المطلوب. وبعد عملية التحضير تطلى القطع بصمغ النشا لتصبح أسطحها ملساء، وتجفف، وتصقل. ثم يبدأ الفنان بنقش زخارفها مستعملًا الأصباغ الزيتية والمائية ثم طلاء الورنيش اللامع. وتتفاوت أسعار “الماتريوشكا” حسب نوع خشبها، وعدد قطعها، ونوعية نقوشها، وطلائها وغير ذلك من المؤشرات الفنية القيمة.
كما تعطي الدمى إطلالات متجددة تكون قريبة بمفهومها من الأوربيين. حيث يقوم الرسامون بربط الشكل الروسي المعروف مع الفن الأوربي. فرسموا ماتريوشكات باسلوب “بابلو بيكاسو”، و”فرناند ليجيه”، و”هنري ماتيس”، و”أميديو موديلياني”، و”فرانكو بروسبيري” وغيرهم من الفنانين الأوربيين المشهورين. ولسعة انتشار “الماتريوشكا” عالميًا. ظهرت دمى مصنوعة خارج روسيا، وخاصة في ألمانيا.
وتبقى “الماتريوشكا” الهدية/ التذكارات/ اللعبة الروسية الأشهر والأكثر طلبًا من قبل زوار بلاد الثلج. تراها بشكلها اللطيف والمُحبوب المُوحي بترابط الأسرة الريفية. وتجعلك تبتهج رغمًا عنك، بما تحمله من تصاميم، ومفاجآت، وألوان، وزركشات متقنة وحرفية باهرة. الماتريوشكا، حكاية روسية صمدت مع مرور السنين فلم يُصيبها شيخوخة. واحدة من أكثر الرموز الفولكلورية المُتربعة على عرش الصناعات التقليدية الروسية.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.