عمالقة “العصا السحرية”

منذ أن بدأ البشر يغنون جماعيًا، وُجد “مَن يتولى تنسيق الأداء الموسيقي، والغنائي”، وذلك تفاديًا للنشاز أو الفوضى البعيدة عن عذوبة الموسيقى، وروعة الطرب. وحديثًا.. تعاقب عدد كبير من عمالقة “العصا السحرية” على مسرح الموسيقى العالمية. لقد سموا بالموسيقى لتبهج النفوس، وتسعد مستمعيها. ومع تشابههم في الإخراج/التأليف الموسيقي، يبقي لكلٍ عبقريته، ومهارته، وفرادته، وبصمته الخاصة. وهم قائدي الأوركسترا/المايسترو.

قائد الأوركسترا - المايسترو
WUWF

تميزت الموسيقى المصرية القديمة بجماعية الأداء، لارتباطها بالطقوس الشعائرية والجنائزية، وأوقات العمل. ولفترات، وقف الإيقاع وشاعرية النص خلف تنسيق الإنشاد الجماعي. لكن، كثيرًا، ما تولي “الكاهن، أو نوابه” مهمة ضبط أداء الأفراد، والآلات المصاحبة في الإنشاد. ثم ظهر أفراد متميزون، وأصبح لهم أهمية خاصة جعلتهم يتفرغون لصقل موهبتهم، وأداء دورهم القيادي للعازفين.

وفي عصر الأسرة المصرية الثامنة عشر، أستخدمت الآلات الموسيقية مجتمعة كفرقة أوركسترالية تعزف بتوافُق منظم. وشهدت بلاد “سومر” بمنطقة ما بين النهرين منذ 3000 عام ق.م. جوقة موسيقية، شملت أربعة وستين عازفة ومطربة، تحت قيادة فتاة “مكلفة بالإشراف على الجوقة، وتنسيق الأداء”.

وبتوالي العقود، تطورت “قيادة الفرق الموسيقية والغنائية” عبر حركات اليدين الدالة على “طبقات صوتية” للمغنين. كما تواصل “القائد” مع جوقته عبر استخدام أدوات خاصة كلفافة من الورق، أو قوس كمان. وفي القرن الثامن عشر الميلادي، كان عدد الأوركسترا لا يزيد عن اثني عشر عازفًا، يقودهم، عادة، المؤلف نفسه أو عازف الكمان الأول. وفي فرنسا، فكان أحدهم -غالبًا الملحن-، يقف خلف ستارة المسرح ليوجه الفرقة “الصغيرة” بِصَوْته، أو بنقر رجله على خشبة المسرح. وحين عُزفت الموسيقى لجمهور غفير في صالات كبيرة، كان لا بد من زيادة عدد العازفين (أربعين ثم ستّين، وهكذا). وتَبَدَّل أسلوب التأليف الموسيقي، فظهرت السيمفونيات الطويلة الشهيرة. وصار لا بد من صاحب “عصًا سحرية” ليُنسِّق عزف الموسيقيين، وغناء الأوبراليين. ويُذكر أنه في عام 1820 كان قائد الأوركسترا الألماني “لودفيغ شبور” أول من استعمل “عصا القيادة الساحرة”.

روعة القيادة

تتألّف الأوركسترا السيمفونية من ثلاث مجموعات، في الأمام الآلات الوترية: الكمان، والفيولا، والتشيلو (الفيولونسيل)، والكونترباص؛ وخلف الوتريات توجد آلات النفخ الخشبية: الفلوت، والأوبوا، والكلارينيت، والزماخر. وعلى جانبي المسرح تتوزع آلات النفخ النحاسية: الأبواق، والترومبون، والتوبا؛ وأخيرًا، في الصفوف الخلفية، يجلس عازفو آلات الإيقاع: الطبول، والصنوج، والمثلثات، والزيلوفون وغيرها. وبقيادته هذه “الأوركسترا” الكبيرة، ينحت “المايسترو” العمل المقصود في “صورة صوتية” يتذوقها بأُذُنه، ويضعها في قالب مميز، دون خيانة “روح مؤلفها”. فقد فكك رموزها، ونقلها -بصمته- إلى أفراد فرقته. وعليه أن يكون واضحًا في حركاته لضبط الإيقاع، وتوالِي دخول الآلات المتدرِّج بحسب المقطوعة، وكيفية ابتداء الجملة الموسيقية وانتهائها، وقوة الصوت وحركة الموسيقى قوةً وضعفًا، وهكذا. وهنا يأتي دور “عصاه السحرية” (قد تثير حيرة الكثيرين)، و”لغة وجهه، وجسده”.

وعلى “المايسترو” أن يكون مدركًا للمصاعب التي قد تواجه أي عازف، وبخاصة عند العزف المنفرد. فعندما يؤدي عازف منفرد كونشرتو (للبيانو أو الكمان …إلخ)، فعليه متابعته، بدقة، فَيُسهِّل مهمته، ليُشعره بالراحة في الأداء، ومتي يعود للمنظومة السيمفونية كلها. لذا دوره أكبر عند قيادة الأوبرا، إذ عليه تنسيق عزف العازفين المنفردين، والجوق، والأوركسترا عمومًا. وعندها حاجته إلى الإنتباه أكبر، لأن الصوت البشري أداة موسيقية أشد حساسية في الأداء، من الألات. وفي بدايات القرن التاسع عشر غدت “قيادة الفرقة الموسيقية” مدخلًا إلى الشهرة، وعلامة تميّز، وموهبة كبيرة. وتمتع قائدو “الأوركسترا” بـ”سلطة كاملة” على الموسيقيين، ومن ثم نسجوا صورتهم الخاصة في عالم الموسيقى الساحر. وتحولوا من منظمي إيقاع العزف، أو ضابطي للوقت (كما كان وصفهم عند الألمان)، إلى فنانين حقيقيين ذوي إسهام أساس في الأداء الموسيقي والغنائي.

“جان باتيست لولي” – قائد الأوركسترا

يُعتبر الفرنسي/الإيطالي الأصل “جان باتيست لولي” Jean-Baptiste Lully (1632-1687)، أحد أشهر عمالقة الموسيقى الفرنسية في القرن السابع عشر. لكن من المفارقات المؤلمة، أنه في الثامن من يناير/كانون الثاني 1687، وخلال قيادته لعمله “تسبيحة الشكر” Te Deum، جُرِح ساقه بعصا القيادة. لكن جرحه تلوث والتهب؛ وانتشرت فيه “الغرغرينا”، ورفض اقتراحًا ببتر فخذه، فواجه الألم، وتُوفِّي في الثامن والعشرين من مارس/آذار تاركًا خلفه ثروة كبيرة. ربما كانت أكبر ثروة تركها موسيقي في ذلك الوقت. وأُقيم له -بأمر الملك- ضريح فخم دمّرته الثورة الفرنسية عام 1789. ففي أيطاليا، تَلقّى دراسات في العلوم، من بينها أصول العزف على الكمـان، فبرع فيه. ثم انتقل، في الرابعة عشرة من عمره، إلى فرنسا، وتقلد، في عهد الملك لويس الرابع عشر، منصب المشرف على الفنون الموسيقية.

تعرّف “لولي”، عام 1662، على الشاعر الكبير “موليير”، وتعاونا معًا في تأليف/إخراج ما عُرف بـ”الكوميدي-باليه”. حيث ألّف موسيقى مسرحيات “موليير” الشهيرة، مثل “زواج بالقوة” (1664)، و”الحبّ طبيب” (1865)، و”البرجوازي النبيل” (1670). ثم اهتم بالأوبرا، بعد اكتشافه عمل “كامبير” Cambert (1628-1677) “بومون” Pomone، ومن ثم حصل على احتكار الأوبرا الفرنسية ووضع أسسها. وقام الملك “لويس الرابع عشر” بمنع المسارح الخاصة من توظيف ما يزيد على ستة عازفين على الكمان، كي لا يتم عرض أوبرات لمؤلفين آخرين غيره. وألفّ “لولي”: 32 باليه للبلاط، و12 كوميدي-باليه، و14 أوبرا، وأعمالًا أخرى، مثل تراتيل دينية للمناسبات، منها “استرحام”، و”ثلاثيات للآلات مهداة إلى الملك”. كذلك قطع من التراجيديا الشعرية (ألسيستي، 1674؛ أتيس، 1676؛ أرميديه، 1686). كما ترك أسلوبه أثرًا بارزًا فى أعمال الموسيقيين “يوهان سباستيان باخ”، و”جورج فريدريك هاندل”.

“لودفيج فان بيتهوفن” – قائد الأوركسترا

يري كثيرون أن “لودفيج فان بيتهوفن” (1770-1827م) هو العبقري الأول في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية. نبغ في سن مبكرة، وتطورت عبقريته مع الزمن. شملت مؤلفاته للأوركسترا تسـعة سيمفونيات، وخمس مقطوعات موسيقية على البيانو، ومقطوعة على الكمان. وألّف عددًا من المقطوعات كمقدمات للأوبرا. وبدأت إصابته بالصمم 1802م، ليقبع في عالم من السكون. فانسحب من الأوساط الفنية والاجتماعية تدريجيًا. ومع سوء حالته، امتنع عن العزف في الحفلات العامة، فقلّت مؤلفاته، وباتت أكثر تعقيدًا. واكتسبت اثنتان من “سيمفونيات مرضه” (الخامسة والتاسعة) شعبية كبيرة. لكنه شهد بنفسه من يقود سيمفونياته، في كهولته. وحاول أن يتولى القيادة في بعضها، على الرغم من صممه. ويقال إنه وقف مرة إلى جانب القائد ليقودا الفرقة معًا. لكن الأوركسترا كانت تلتزم عصا القائد، دون إشارات “بيتهوفن”. فلم يعد سمعه يتيح له مسايرة إيقاع العزف.


مساحة إعلانية


“فيليكس مندلسون” – قائد الأوركسترا

موسيقار، وعازف بيانو، وقائد أوركسترا ألماني. كان أول ظهوره للجمهور عازفًا للبيانو عندما كان في التاسعة من عمره، وكتب أول ألحانه الموسيقية وهو في العاشرة. وما بلغ سن المراهقة إلا وهو ملحن ذائع الصيت؛ وقد يكون أشهر ملحني عصره. ولد “فيليكس مندلسون” Felix Mendelssohn(1809-1847) لعائلة يهودية ذائعه الصيت، فجده “موسى مندلسون” الفيلسوف الألمانى البارز في القرن الثامن عشر. وتميز “فيليكس” بحسه الموسيقي المرهف، وشخصيته الجذابة، وروعة قيادته الأوركسترالية، لذا يُعد من أكثر الملحنين مساهمة في تشكيل الذوق الموسيقي للجمهور. وكان من أشهر إنجازاته دوره في إحياء الاهتمام بموسيقى “باخ”. كما كان له فضل تحسين الأداء في عزف أعمال “بيتهوفن”، و”موزارت”، و”هاندل”. وكان “مندلسون” أيضًا أول قائد موسيقي يُنظِّم حفلات موسيقية بهدف تقديم ملحنين يمثلون عصورًا محددة من تاريخ الموسيقى.

وتضمنت أعماله الموسيقية عددًا من السيمفونيات، بالإضافة إلى “الكونشرتو” و”الأوراتوريو” وأعمال للبيانو وموسيقى الحجرة. فعلى صعيد المؤلفات الأوركسترالية، كتب خمس سيمفونيات وافتتاحيات وكونشرتو الفيولون، وعمل آخر من هذه الفئة لم ينتشر إلا بعدما نبشه عازف الفيولون مينوهين وأدّاه عام 1952. كذلك كتب كونشرتوهات، أبرزها اثنان للبيانو والأوركسترا. وفي فئة موسيقى الحجرة، له ستة رباعيات وتريات، وثُمانيّ وتريات وحيد، وسوناتتان للبيانو والتشيلّو، وثلاثيّان للبيانو الفيولون والتشيلّو، وأعمال للبيانو وأخرى للأورغن. وكان “مندلسون” محافظًا في أسلوبه الموسيقي، مغايرًا لروح عصره، فلم يشبهه أحدهم. لكنه تعرض للتجاهل الشديد من النقاد خلال القرن التاسع عشر نتيجة للتغييرات الكبيرة التي طرأت على موسيقى القرن التاسع عشر خاصة في عصر “فاجنر”، والتي اعتبر من المتأخرين عنها. لكن إعادة تقييم أعماله كشفت عن أصالته الإبداعية وأنه أحد أكبر موسيقي الحقبة الرومانتيكية المبكرة.

“جوستاف مالر” – قائد الأوركسترا

ألف “غوستاف مالِر” Gustav Mahler (1860-1911) القائد الأوركسترالي النمساوي العديد من الأغاني، بالإضافة إلى عشر سيمفونيات تصنف ضمن تيار الأعمال الشاعرية التي تلت الحركة الرومانسية. يعتبر آخر مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية النمساويين الكبار، الذي نقل بسيمفونياته الموسيقى الرومانسية المتأخرة إلى عصر الحداثة. وبين رؤية سوداوية وأخرى ساخرة، وبين إشراقات العبقرية الموسيقية -وضغط الهوية الثقافية، عاش “مالر”. بدأ رحلته في سن الرابعة مع الأكورديون، ثم عزف على البيانو. وبعد عامين صار يُعلمُ العزفَ على البيانو، وكتب أولى مقطوعاته الموسيقية. وإلى جانب الموسيقى الشعبية الراقصة، أثرت فيه الموسيقى العسكرية، التي كان يسمعها في بلدة “أيغلاو”. وفي عمر تجاوز الخمسين عاما كان “مالر” قد أنتج عشر سيمفونيات وتسع مقطوعات موسيقية شعرية. وكان قد سبق عصره في موسيقاه، فقال ذات مرة: “إن موسيقاي ستدوم أطول من موسيقى معاصري ريتشارد شتراوس”.

أما أشهر سيمفونياته، فهي التاسعة، التي تَردد في كتابتها، خوفًا من لقاء نفس مصير “بيتهوفن” و”بروكنر”، اللذين قَضيا قبل إنهاء سيمفونياتهما التاسعة. وفي محاولة منه لإلباسها ثوبًا يخفيها عن الموت، كتبها كمجموعة أغان سماها “أنشودة الأرض”، مقتبسًا كلماتها من أغنية صينية قديمة. وبعكس أعماله التي طبعتها السوداوية، كانت السيمفونية العاشرة رومانسية عاطفية وصلت فيها روحه الموسيقية إلى قمة الإبداع الفني. وبجانب تأليفه السيمفوني، انشغل “مالر” كثيرًا بقيادة الأوركسترا. فقد عمل في موطنه الأم التشيك وفي مدن أوروبية عدة، مثل كاسل، ولايبتزغ، وبادن هال في ألمانيا. وفي المجر قاد الفرقة السيمفونية الملكية في بودابست. وعمل مديرًا لدار الأوبرا في فيينا. وغادر إلى نيويورك ليعمل في أوبرا متروبوليتان. ووافته منيته تاركًا ثروة فنية كبيرة رغم حياته القصيرة نسبيًا.

“أرتورو توسكانيني”

“ليس من المبالغة أن نقول إن توسكانيني ليس فقط أحسن قائد فرقة موسيقية في عصرنا، بل في كافة العصور”، هكذا كان وصف “د.إ. إنجلبرخت” D. E. Inghelbrecht الملقب بـ” أمير العصا”، والمتمرس في دقائق فن القيادة لأبرز زملائه. وهب “أرتورو توسكانيني” Arturo Toscanini(1867-1958) للموسيقى أكثر من ثمانين سنة من عمره. تخرج في معهد بارما للموسيقى عام 1885، وحمل دبلومات عالية في العزف على الشيللو والبيانو، وفي التأليف الموسيقي. وفي الثامنة عشرة من عمره بدأ رحلاته حول العالم كعازف شيللو في فرقة موسيقية. وأحرز أولى نجاحاته في ريو دي جانيرو، عندما حل، مصادفة، محل قائد فرقته. ولم يلبث أن أكد موهبته غير المعتادة. وفي نفس الموسم، قاد ثمانية عشر أوبرا. ولما عاد إلي إيطاليا، كانت شهرته الفائقة قد سبقته إليها.

ولم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره عندما بدأ بقيادة الفرق في مسرح سكالا بميلانو، وأوبرا مترو بوليتان بنيوروك، وفي سالزبورج، وبيروت، لينتهي به المطاف إلي الفرقة السيمفونية التي أنشات خصيصًا له، فظل يقودها حتي وفاته. وكانت طريقته في القيادة “تنفيذ كل ما هو مكتوب”. إحترام، ومعرفة، وحب للموسيقي هيأ “للمايسترو” تنقية التراث الغنائي الإيطالي مما تراكم عليه من تشوهات .. شكلآ ومعني، وأسلوباً موسيقياً. وفجدد مؤلفات “روسيني”، و”بوتشيني”، مروراً بـ”فردي”. وقد طبق “توسكانيني” نفس الأمر، على الأداء الخاطئ لمؤلفات “فاجنر”، و”بتهوفن”، وردها لسابق عهدها السليم. كانت ملاحظاته الشديدة التي كان يصف بها نجوم الغناء، وثورات غضبه الأسطورية، وتوقيفه “البروفات” وإعادتها، والعِصِيّ التي تكسرت على رؤوس عازفي الكمان، مظاهر لحماسة العبقري “توسكانيني” الذي لم يكن هدفه سوي “خدمة الموسيقى”.

“برونو والتر” – قائد الأوركسترا

تميز “برونو والتر” Bruno Walter (1876-1962) برشاقته الرصينة في قيادته الأوركسترا. فكان يهتم كثيرًا بالجانب الإنساني، ويمجد الصفات السامية للغناء الرومانتيكي. عزف، في بدايات حياته، على البيانو. وفي الثالثة عشرة من عمره عزف في كونشرتو “موسكو”، وكان نجاحه مؤشرًا على مستقبل زاهر. أتم دراسته بمعهد موسيقى “شترن” في برلين، وطاف بعدة مدن ألمانية، والتقي “جوستاف مالر”. ثم استقر فترة في “برلين”، حيث قاد -مع “ريتشارد شتراوس”، و”كارل ماك”- الفرقة الموسيقية الملكية. وفي عام 1913 صار المدير العام للموسيقى في دار أوبرا “ميونيخ”. وفي “باريس” على مسرح “الشانزليزيه”، قاد عروضًا لا تُنسي لأوبرات “موتسارت”. وقد أحيا “والتر” العادة القديمة، بأن يقود الكونشرتات، في نفس الوقت الذي يُعزَفُ فيه جزء البيانو المنفرد، مثل “موتسارت”، الأمر الذي قد يبدو شديد الخطر بالنسبة للمعتدين بأنفسهم الذين “ليسوا هم الموسيقي نفسها”.

“أوتو كلمبرر” – قائد الأوركسترا

“جوستاف مالر يوصي بالسيد أوتو كلمبرر. وهو رغم صغر سنه، يُعد موسيقيًا متمرسًا، ومهيأ لقيادة فرقة موسيقية. وجوستاف ميلر يضمن نجاح التجربة معه. ومستعد شخصيًا لتقديم كل ما يطلب منه من معلومات”. كانت تلك “بطاقة تزكية، وتوصية ناجحة” احتفظ بها على الدوام “أوتو كلمبرر” Klemperer (1885-1973)، وقد كُتبت له وهو في الحادية والعشرين من عمره. وقد قام بإرسالها عام 1907، إلي “أنجيلو نويمان” مدير مسرح “براغ”، فرد عليه بقوله: “إنني أقدم لك نفس العمل الذي قدمته لآرثر نيكيستش منذ عشرين عامًا. سوف تكون عندي قائد فرقة”. لم تكن ضخامة جسمه هي السبب الوحيد في سيطرته الفنية على عصره، بل كانت شخصيته النادرة، وثقافته البارعة، وعبقريته في الآداء من أقوي الأسباب لتبوئه قمة قيادة الفرق الموسيقية في النصف الأول من القرن العشرين.

فكان عملاقًا لا يجاري في العصر الذهبي للموسيقى السيمفونية. وتعرض لعدة حوادث جسمانية، فقد سقط متعثرًا، عام 1933، وظهر تجمع دموي في دماغه وكانت بداية ورم، وأجريت له جراحة بعد ست سنوات من تعثره. وأسفرت الجراحة عن شلل نصفي. وبعد انثي عشر عامًا، كسرت ساقه السليمة في مطار مونتريال. وبعد سبع سنوات أخري، غلبه النعاس، وهو يدخن غليونه، في منزله بزيوريخ، فاشتعلت النار في فراشه. وقد تغلب على الحروق الشديدة التي أصابته، وقد بلغ الثالثة والسعبين من عمره، وقد استمر في قيادةالفرقة “واقفًا” بحماس دائم، ونشاط عميق. وبعد أن تجاوز الثمانين، كانت الفرق الموسيقية عندما تشاهد “الأسد العجوز” يتملكها شعور الذهول، ويعلقون: “نفس الأسلوب دائمًا، ونفس الدقة. له نفس النظرات الثاقبة، وطلباته الدائمة من فرقته الموسيقية والغنائية. له نفس الروح والحيوية، والغريب في شأنه أنه دومًا على حق”.


مساحة إعلانية


“ويلهلم فورتفانجلر” – قائد الأوركسترا

قادته الفلسفة إلي الموسيقى. وتنم قيادة -هذا المُفكر- عن عمق فلسفي ووجداني كبير. لكن اختلف أسلوب “ويلهلم فورتفانجلر” Wilhelm Furtwangle (1886-1954) عن أسلوب “توسكانيني”. فقد كان الأداء عند “فورتفانجلر” يعتمد على “الواقعية والكمال، إذا استطاع قائد الفرقة السيطرة على العلامات الموسيقية، وأضفي عليها قوة أكبر”. وكان يؤمن أن “الإلهام من جانب القائد يلعب دورًا حاسمًا”. لذا كان يتعمد بعض الغموض، ليترك مجالًا للتعبير الإنساني. وفي عام 1922 قام بخلافة “آرثر نيكيستش” Arthur Nikisch في “ليبزج”، و”برلين”. وظل حتي آخر حياته الفنية مكرسًا فنه لمؤلفات بتهوفن، وبرامر، وفاجنر، وبروكنر. مؤديا لها بحماسة درامية غير عادية.

“شارل مونش”

كان تأثير “شارل مونشن” (1891-1968) على العازفين تأثيرًا مباشرًا وتامًا دون تحديد هندسي بالإشارات. كان يستعيد، بداية، دراسة كل مقطوعة يعزفها عن ظهر قلب، توطئة لكل أداء جديد لها. وباحثًا عن “الكمال”، لم يجعل من كونشرتاته أو تسجيلاته أداءً ذا طابع شخصي أناني، بل كان يرتبط بالموسيقى ارتباطًا مذهلًا، ويدخل -بعد أن يفرغ شحنة العازفين من الرهبة الأولي- في حالة من “الانتشاء والتوحد والأداء التعبيري القوي”. فتراه، بوجهه المجعد، يعكس إحساسات داخلية عميقة، يشع من حوله تيارًا مغناطيسيًا عجيبًا. وكان أشبه بالكيميائي القديم الذي يحدد “الجرعات الصوتية”، والتوقيت الدقيق. ولم يكن يُضَحِّي بالفكرة الفنية العامة من أجل إبراز التفاصيل. كل هذا وغيره جعلت له -في قيادته- “طاعة غير عادية” أسموها “قوة مونش”.

“هربرت فون كاراجان”

كانت قيادة المايسترو النمساوي “هربرت فون كاراجان” Karajan Herbert von (1908- 1989) رشيقة وجميلة في حركة جسده. وكانت حركته كحركة “هِرٍ متسلل، يسبح في حلم عديم الأهمية”. وتبدو قيادة “ويلهلم فورتفانجلر” و”منغلبرغ” وهما من أشهر قادة الأوركسترا السمفونية، أقل رشاقة وجمالًا من قيادة “كاراجان”، الذي ينتمي إلى الجيل التالي من القادة الأوروبيين. لقد عزف أكثر من 700 عمل موسيقي وحقق نجاحات كبيرة، وقام بتوزيع نشيد الاتحاد الأوربي. داعب البيانو وهو في الثالثة من عمره، ثم درسه هو والإيقاع في معهد “موتسارت” بسالزبورج. وكان والده يُصر على دراسته الفلسفة في جامعة “فيينا”، وهناك دربه “شالك” Schalk على قيادة الفرق الموسيقية. ثم بدأ عمله كقائد فرقة في سالزبورج، كما قاد في “برلين” فرقتي “الناي السحري”، و”سادة الغناء”. وكان القائد الأول لفرقة بلدية برلين عام 1939. وبعد عقد من الزمن. أدار مهرجان سالزبورج، ثم اختاره مسرح “ميلانو” رئيسًا مستديمًا له.

استمرت حياته في صعود متواصل على سلم المجد، فهو متحمس لعمله، مخرجًا، ومنتجًا، ومديرًا فنيًا. فقد توفي هذا العملاق واسمه يتصدر الأسماء في النصف الثاني من القرن العشرين مع “أرتورو توسكانيني” وغيرهما. وعلى صعيد تفاعله الأدائي، أحصت “تيريزا مارين ناكرا” (المختصة في دراسة قادة الأوركسترا نفسيًا ووجدانيًا) دقات قلب “فون كاراجان” وهو يقود الافتتاحية الثانية لبيتهوفن، وفي منتصفها، حين تقترب المقطوعة من ذروتها الإنفعالية؛ تبلغ دقات قلبه 150 نبضة/دقيقة، وهذا أمر غير عادي لرجل كان في الستين من عمره. وكان “كاراجان” يحب قيادة الطائرات. فاختبرته الباحثة وهو يقود الطائرة ويغوص بها نحو الأرض، ليعاود الصعود بها نحو الفضاء. لم يخفق قلبه للمغامرة الطائرة مثلما خفق لموسيقى بيتهوفن.

“ليونارد بيرنشتاين”

شارك المؤلف الموسيقي الأمريكي “ليونارد بيرنشتاين” Leonard Bernstein (1918- 1990) في رسم صورة المايسترو المتألق الذي صار نجمًا في ذاته، مع أنه لا يعزف ولا يغني. لكن في مقابل رشاقة “كاراجان” وجمال حركته على المسرح كانت حركة “بيرنشتاين” تمتاز بالانضباط والوضوح. وكان نقاده يصفونه بأنه “يرقص” على المنصة. طاقات بيرنشتاين المشتعلة تألقًا، وبراعته المحيرة، وإنجازاته/هداياه المذهلة لكل من عالمي الموسيقى والمسرح، اتَّحدت لتجعل منه أشهَرَ من نار على علم في طيف واسع من المجالات الفنية، منها الموسيقى السيمفونية، وممسرحيات برودواي الغنائية، والباليه، والأفلام، والتلفزيون. وعندما انهار جدار برلين، قاد “بيرنشتاين” السيمفونية التاسعة لبيتهوفن وتم استبدال كلمة كلمة Freiheit (الحرية) بكلمة freude (الفرح). يذكر أن “ليونارد بيرنشتاين” قد درس عام 1940 الأوركسترا السيمفونية فى بوسطن. ثم عمل مديرا للأوركسترا السيمفونية بنيويورك عام 1945 ورئيسا لمهرجان الفنون الإبداعية بجامعة براندايس فى أوائل الخمسينيات. كما قاد عددًا من الحفلات الموسيقية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.

“كارلوس كلايبر”

من كبار قادة الأوركسترا المعاصرين يبرز “كارلوس كلايبر” (1930-2004). إنه “أشبه بمستمع مستمتع، منه بقائد أوركسترا”. ولد في “برلين” لعائلة نمساوية هاجرت إلى الأرجنتين عندما كان طفلها في الخامسة من عمره. في مطلع الخمسينيات، عاد كارلوس إلى أوروبا وبدأ دراسة الكيمياء، قبل أن يتجه نهائيًا إلى الموسيقى التي كان قد بدأ دراستها في الأرجنتين. اتسم بالروح الطيبة والمرحة في التعامل مع الموسيقيين الذي يعملون تحت “عصاه السحرية”. كل هذا مقابل قسوة فولاذية لا تقبل نقاشًا ولا مساومة في بلوغ النتيجة الأفضل.

في 1954، قدّم أول أمسية حية له. وبخلاف “كاراجان” ترك “كلايبر” عددًا محدودًا من التسجيلات الممتازة والمذهلة. ويبلغ أحيانًا قمةً لا يفكّر قادة الأوركسترا في بلوغها، فكيف بتخطّيها؟ كان “كلايبر” قائدًا غير منهجي: سجّل لبيتهوفن السمفونيات: الرابعة (مرتيْن)، والخامسة، والسادسة، والسابعة (3 مرات). وسجل لموزار السمفونيات: 33 و36 فقط. وخلال نصف قرن، قدم “كلايبر” نحو مئة أمسية حية. وقاد عروضًا للأوبرات كثيرة أحبها (ريشارد شتراوس، ويوهان شتراوس، وفاغنر، وفيبير، وفيردي، …إلخ). وتم تصوير بعضها، كذلك بعض حفلاته منها قيادته لأوركسترا “فيينا” في رأس السنة عامي 1989 و1992. وفي عام 2004، رحل بصمت، ليرقد في قرية وسط سلوفينيا، مسقط رأس زوجته، راقصة الباليه الراحلة قبله ببضعة أشهر.

صفوة القول

قائد الأوركسترا فنان يراه الجميع لكن قلَة تدرك حقيقة دوره، وأهمية وجوده أمام الفرقة الموسيقية والغنائية. وهو يدير “صامتًا بعصاه السحرية”، ولغته الجسدية، يلتزم قواعدًا أساسية: المعرفة، والإرادة، وتحقيق الهدف بحزم، وحسم، وطلاقة. إذ أن أفضل قادة الأوركسترا هم الذين يسيطرون على كل نبرة، وتعبير موسيقي، وصوت غنائي في فرقتهم.

د.ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

 

إقرأ أيضاً:  تاريخ تطور السيناريو


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

الإنصاف المفقود

الأربعاء يونيو 9 , 2021
تمت قراءته: 3٬925 إن الإنصاف من الصفات التي ربما يندر وجودها في عالمنا الحديث. حيث أن الوضع العام يدعوا الكثير -إلا من رحم رب العالمين- أن يكون متحزبًا أو متعصبًا لفريق أو جماعة أو حزب أو مؤسسة أو قرية أو بلدة من البلدان. وليس الإشكال في ذلك التعصب، وإنما الإشكال […]
الإنصاف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة