الإبداع: موهبة، وتنمية

هل الإبداع موهبة فقط، و”إصغاء داخلي” يمتلكه المرء أو يفتقده؟. ما هي مواصفات البيئة المساعدة على بزوغه وتطوره، وهل يمكن تعلمه؟ (الإبداع: موهبة، وتنمية)

الإبداع موهبة، وتنمية
Hospitality insights

للشخصية الإبداعية سماتها التي يجب اكتشافها أولا، لتنميتها وتطويرها. فمن سماتها إحساسها بالمشكلات (الميل لإدراك وتحديد الصعوبات والثغرات في بنية العلم وعدم تجانس المواقف، والبحث عن حلول مناسبة، والعمل علي تحسين الظروف المحيطة)، وأصالتها: (إنتاج أفكار جديدة وفريدة أو غريبة، لكنها معقولة، وتستخدم في قياس الأصالة مقاييس لفظية وغير لفظية)، وطلاقتها: (طلاقة لفظية وفكرية وعملية، عبر إنتاج / تداعي عدد كبير من الأفكار المبتكرة في فترة زمنية محددة)، ومرونتها:(القدرة على تغيير الاتجاهات الذهنية بسهولة وبجدة، وفق متطلبات الموقف، وترتبط بخصائص المرء المزاجية، ونمو شخصيته وتكاملها ونضجها الانفعالي)، ودقتها :(القدرة على استخلاص مضامين الأفكار، واستكمال وإضافة وتوسيع رقعة التفاصيل الدقيقة المُضافة إلى عمق الفكرة الأصلية).

وثمة خطوات وقدرات للعلميات المعرفية العقلية. فمن أولى خطواتها إجادة اللغة والثراء اللغوي، فاللغة مجموعة من العلامات تعبر عن الأفكار وعمليات التفكير المختلفة بين الناس، وتعكس فوارق البينية اللسانية بينهم، كما أنها مادة العقل والتفكير وترجمانهما، فالتفكير في مجمله لغة، وكلما ازدادت حصيلتها وثراؤها ازدادت عملياته كماً وكيفا. لذا فينبغي العناية باللغة العربية لكونها النهر الذي يُغذي بنية الشخصية والعقول وسبل التفكير السليم، ومن ثم القدرات الإبداعية. والمتتبع لتراجم علماء حضارتنا العربية الإسلامية الأفذاذ ـ وحتى الأعاجم منهم ـ الذين أبدعوا في شتي تصانيف العلوم ومناحي الحضارة يجد لديهم معلما بارزا أنهم اغترفوا من لغتهم العربية.. دراية ووعياً وإحاطة بآداب وفنون أقوامهم، يقول البيروني:” لهجاء باللغة العربية خير عندي من مدح بلغة أعجمية”.

إقرأ أيضاً:  الذعر الليلي

مساحة إعلانية


تأثير البيئة – الإبداع: موهبة، وتنمية

ومن الخطوات الهامة لتنمية العقل المُبدع تهيئة وتوفير الظروف الأسرية والبيئية التي يسودها الاستقرار النفسي والاجتماعي، والهدوء والاطمئنان، فالإبداع لا ينمو إلا في بيئة ذلك شأنها. كذلك الابتعاد عن التشويش والأجواء الانفعالية المشحونة والمُعيقة لملكات التركيز والتأمل والتدبر فيضيع الاستيعاب والاستقلال الفكري:” ، فعمليات التربية والتنشئة ـ المباشرة وغير المباشرة ـ التي تتعهد بالحدب والدفء والرعاية، والإجابة الدائمة والمناسبة عن كل الأسئلة الخاصة بمناشط حياتنا اليومية وأثناء القيام بها، تُحسن القيام بعمليات التفكير للوصول لنتائج صحيحة، تلك النتائج التي تتفادى نسق الأفكار السلبي، وزيف وتزييف العقل، لتصل إلي الحقيقة التي تخلو من التقليد والتبعية، والإبداع الذي يعكس الاستقلالية والمسؤولية.

ويعتمد الإبداع كثيرا على تنمية الثقة بالذات/ الشخصية الاستقلالية/ المسئولة. فأولئك الذين يخرجون عن المألوف التقليدي، يحتاجون إلى كثير من التشجيع والدعم في وجهات نظرهم وطروحاتهم المبتكرة. وثمة محاولات للتواصل والتلاؤم مع كل برعم من براعم الإبداع كل على حدة. إن هناك طرقاً تسعي لقياس الإمكانيات والإبداعات من خلال مقاييس ثابتة، موضوعة بشكل تجريدي، حسب المبدأ القائل.

على سبيل المثال: من لا يستطيع أن يرسم فإنه لا يمكن أن يكون مبتكرا. أي أنه لا يتمتع بالموهبة.لكن يبقي إمكانية تدرب المرء على طرقه الخاصة للوصول إلى حلول مبتكرة. وتنمية حب القراءة والشغف بالكتب معلم أساس للعقل الُمبدع: والبداية تكون بالكتب المصورة والواضحة، ومن ثم التعويد والتشجيع المتواصل علي أليات القراءة الأبتكارية والإبداعية.. استيعابا وفهما واستفسارا وتساؤلا واستنباطا واستنتاجا وترابطا وتراكما وإجابة. وينبغي عدم التبرم من “الإلحاح الفضولي” للمعرفة وطرح الأسئلة المتواصلة التي تعبر عن ” قلق معرفي” وتعطش للمزيد منها.

الإبداع: هل يمكن تعلمه؟

بـَدع الشيء بَدعاً: أخترعه، وأنشأه علي غير سابق مثال، فهو بديع، وأبدع: أتي بالبديع، والإبداع: إيجاد الشيء من عدم، والـبِِـدع بكسر الباء: الأمر الذي يُفعل أولا، ويقال ما كان فلان في ذلك بٍدعاً، وفي القرآن الكريم:” قل ما كنت بـِدعاً من الرسل”، والبٍدع: الغاية من كل شيء.

وللقدرات الإبداعية وبنية العقل المُبدع..علاقات متداخلة: كعلاقة التفكير بموضوعه، فكلما ازدادت المدخلات والتفاعلات الطبيعية والرؤى وفعل التثاقف الخاص بموضوع ما ازداد التفكير والإبداع فيه، وتنشا علاقات وروابط تربط عمليات التفكير بالذات المفكرة في تناغم مستمر. وثمة حاجة لقدرات تنمي منها: قدرات التركيز وهي أول خطوات التفكير، وتختص بجذب الانتباه لمجموعة من المعلومات المختارة، وقدرات تجميع المعلومات عبر وسائل الحس المختلفة، أو الوسائل التقنية الحديثة أو عبر طرح الأسئلة، وقدرات ترتيب المعلومات ومقارنتها ليجعل استخدامها اكثر كفاءة، وقدرات التذكر بتخزين ومراجعة واسترجاع المعلومات والمعارف، ويكمن تشفيرها وترتيبها وربطها بأشياء مشتركة كي يسهل تخزينها واستعادتها من الذاكرة طويلة المدى، وقدرات التحليل لإيضاح المتوافر من المعلومات بالتحديد والتمييز بين مختلف أجزائها وفروعها وخصائصها الجزئية والكلية مع تحديد العلاقات بينها.

كذلك قدرات الاستخلاص لربط واستخلاص وتلخيص النتائج تلخيصاً دقيقاً غير مخل، ومن ثم تعديل بناء نسق المعرفة لتنضوى تحته هذه النتائج الجديدة. ثم القدرات التوليدية والإبداعية لاستخلاص الأسباب التي تقع خلف المشكلة، ومحاولات التطبيق والتعميم للظاهرة، وتوليد معنى جديد من تغيير شكل المعلومة والتوقع بما قد يحدث مستقبلا. ثم قدرات التقويم لكفاءة وجودة الأفكار وصحتها عبر تأسيس معايير ونظم ثابتة لعملية التقويم والتأكد من الدقة المتبعة في الأعمال.

ويمر الإبداع بمراحل أساسية.. إعداداً، واختماراً، وإشراقاً، وتحقيقاً، وتنفيذاً. فما يمكن تعلمه ودراسته من الإبداع هو: الأسلوب الجيد في تناول المعلومات وتحليلها واستخلاص النتائج منها وحل المشكلات المتعلقة بها وسبل الإقناع بها. فضلاً عن أن الإبداع عبارة عن الشجاعة والعمل الفعلي من أجل التغيير. إنها المقدرة على طرح التساؤلات والبحث عن الإجابات والعثور عليها أيضا. وفي حال عدم العثور على إجابة، فإنه يجب اختراع هذه الإجابة. وهذا الأمر يتطلب الكثير من العناية والإحساس بالأمور الجانبية، كما يتطلب الرغبة في المغامرة بالخيال، وتنمية ملكة الابتكار. ويمكن تعلم هذه الطرق المتبادلة الأدوار. والإبداع في جوهره أسلوب تفكير وعمل يمكن محاكاته، لذا فكل من يسهم في تلكم العملية “كالأقارب والأهل والمعلمين والإعلاميين والرفاق وأفراد المجتمع الخ” هو قدوة يؤثرـ بما لديهم من قدرات إبداعية ـ في تنمية العقل المبدع. فمنذ مرحلة رياض الأطفال والتعليم الأساسي ومعلماته تبدو الأهمية بادية في وضع لبنات البناء المعرفي والسلوكي لأطفالنا.كذلك يشارك الإعلاميون التربيون الاختصاصيون الذين يقدمون لغة إعلام مناسبة، ويثيرون الفضول والمشاركة الإيجابية، ويبدعون في تقديم برامج هادفة بناءة لهم.

كل إنسان يستطيع أن يتعلم ويدرس ليجد فرص تطوير شخصيته وإدراكه الإبداعي من خلال العديد من المجالات والبرامج والمشروعات المتنوعة. ومن ثم المقدرة علي تنظيم ومتابعة دراسته بشكل مستقل وبالاعتماد على الذات. “.”قم بإبداع شكل ما!” بحيث لن تشعر أبدا بالخجل من هذا الشكل! لا تبحث أبدا عما يجمعك بالآخرين، ولا تعتبر المستهلك أقل فهما وذكاء منك. يمكن للمرء أن ينجح عندما يمتلك قلوب الآخرين. إنه أحد المبادئ الإبداعية لتدريب الطلاب عليها. وعلي كلا الصعيدين الذاتي والعام هناك حاجة إلي التأكيد علي أهمية بينة نظام التعليم والتأهيل والتعلم المستمر.

ولعل العمل في قطاعات الإبداع بحاجة ماسة ومستمرة ومتطورة إلى “المقارنة على المستوى العالمي”. وقد تؤدي خطط التعليم والتأهيل ذات البرامج المحددة إلى تحجيم الكثير من المتعلمين ضمن الأطر المعطاة والمفروضة. ولكن مع الوعي بمدى الموارد والإمكانيات، ومن خلال الدعم الفردي يمكن للمواهب أن تتطور وتنجح. لتعليم الإبداع ينبغي علي طلابه ألا يلهثوا وراء “شهادات تقليدية”، وإنما أن ينظروا إلى برامجهم على أنها حقل تجارب غني كبير متنوع. وعلي مدربيهم مرافقتهم في أفكارهم وأعمالهم باعتبارهم نظرائهم، إضافة إلى كونهم ناصحين وناقدين وداعمين، كما أنهم متعلمين أيضا في ذات الوقت.

إقرأ أيضاً:  أسباب تدهور التعليم بالدول العربية وأهم الحلول المقترحة

مساحة إعلانية


اقتصاد الإبداع

في “عصر المعلومات” وصناعة المعرفة.. يلعب التفكير الإبداعي واستثمار المعلومات وصولا للعقل المبدع المبتكر دورا محورياً. لقد بات تقويم الدول تـُقوم بعدد مبدعيها وبراءات الاختراع لديها. لذا فالهدف الأفضل، والذي يعطي ثماره المطلوبة علي صعيد أعم وأشمل (اقتصاد الإبداع)، إنما هو إفساح المجال أمام استكشاف واستطلاع كافة الإمكانات المتنوعة من الوظائف والاستخدامات التي تقود أحيانا إلى أبعد بكثير من آفاق التجارب المعروفة والتفكير الممكن. وهذا المقدار من الثقة بالنفس يمكن أن ينمو فقط حيث تكون الرغبة في تحويل هذه التجارب إلى وقائع جديدة غير تقليدية. ولا يمكن اختصار الإبداع على مجالات أو قطاعات محددة من الاقتصاد، فـ “القطاعات الاقتصادية القديمة والحديثة”باتت تتداخل مع بعضها البعض. إن فرص العمل في مجال “اقتصاد الإبداع” تغري العالم بإعداد مؤهلين لهذا المجال الحيوي والهام والذي بات لب الصناعات الحديثة. إن كافة مجالات الحياة تقريبا يتوقف نجاحها إلى حد كبير على المُبدع/ المبتكر/ المصمم الذي يلعب دور الوسيط بين التطور التقني والتعامل مع المتغيرات والحاجات الاجتماعية والثقافية.

والخلاصة: (الإبداع: موهبة، وتنمية)

ثمة موهبة هي “المقدرة على الإبداع”، التي تحتاج لفضول ومبادرة وإحساس مرهف وإلى شعور بالثقة، وإلي تنمية علمية وتدريبية متواصلة. ولدليل والبرهان الذي يُقنع، والعلم والمعرفة التي تُشبع طريقا أكيد للعقل الذي يُبدع. وعمليات التفكير وتنمية مهارات العقل المُبدع تشمل كل وظائفه وخبراته المكتسبة من تعقل وتأويل وتدبر وتفكر وتذكر ونظر وإبصار وحكمة.. هي مسئولية فردية وأسرية ومجتمعية. وذلك من خلال مناخ أسرى واجتماعي وتعليمي وإعلامي، لتنمية المواهب عموماً، وقدرات التفكير المختلفة خصوصا. إن قدرات التفكير والإبداع كامنة في الإنسان، قد تتفاوت في الأفراد والمجتمعات، لكن عدم تنميتها يجعل الأفراد والمجتمعات تتقاذفهما ـ في عصر العولمة والمعرفةـ الأحداث والصعوبات دون حلول ناجعة لها.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

(الإبداع: موهبة، وتنمية)

إقرأ أيضاً:  ما هو معدل استهلاك تيل الفرامل / الفحمات / Braking Pads؟!


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

متى تصبح الفواكه مضرة لمرضى القولون العصبي؟

الأحد نوفمبر 27 , 2022
تمت قراءته: 1٬464 بين الداء والدواء هناك: غذاء، هذا الأخير قد يتحول حسب نمط التزود به إلى داء يجعل المريض طريح الفراش وقد يصبح كبسولة النجاح نحو حياة جديدة دون ألم، هو الحال بالنسبة لأبرز أمراض الجهاز الهضمي [القولون العصبي] إذ تعتبر الفواكه في العادة أهم غذاء داعم للأنبوب الهضمي […]
الفواكه القولون العصبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة