الحياة الرشيدة في الإسلام

المقصود بالحياة الرشيدة هي الحياة التي يكتمل فيها للفرد والمجتمع وسائل الرضا والاطمئنان. وحسن الصلة بالله تعالى، وإخلاص النية له، اللجوء إليه في السراء والضراء، وإحسان العبادات، وكثرة الطاعات، وفعل الخيرات، وترك المنكرات، وإقامة العدل والقسطاس. وذلك مع صفاء “الضمير الوازع”، وقوة العزيمة الإيجابية، وإتقان العمل، للظفر بمطالب وضرورات الحياة. فكيف صاغ الإسلام هذه الحياة؟ وكيف جمع أسس ومقومات وخطوات صنع هذا الفرد وذلك المجتمع المثالي؟ وهل آن للناس، في خضم قلقهم علي المستقبل، أن يبحثوا عن أهدى السبل للوصول إلى الحياة الراضية المثالية؟ (الحياة الرشيدة في الإسلام)

الحياة الرشيدة في الإسلام
بوابة الأهرام

إن بناء هذه الحياة الراضية الرشيدة يقوم علي حقيقة ثابتة، وهي تكون الإنسان من عنصرين: أحدهما مادي، والآخر روحي. ولا بد من حُسن التوافق والانسجام بينهما، حتى لا يطغى الجانب المادي بشهواته وأهوائه علي الجانب الروحي بسموه وصفائه. كما انه “مدني بطبعه” لا يعيش منفرداُ. وقد اتجه الإسلام إلي تهذيب الفرد تهذيبًا يقوم علي الأساس الروحي. ثم اتجه للأسرة والمجتمع (وما المجتمع إلا مجموعة من الأسر)، ومن ثم إلي بناء الأمة. وأخيرًا. إلي عالمية رسالة الإسلام لبني البشر جميعًا علي اختلاف مللهم، ونحلهم، وألوانهم، وألسنتهم. لتشملهم بالسلام والمساواة والعدالة.

وطريقة الإسلام في تهذيب الفرد تعتمد علي دعائم عديدة من أهمها: ترسيخ الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح: “. مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (سورة البقرة، الآية: 62). أما الإيمان بالله فهو القوة الدافعة إلي عمل الخيرات والطاعات، والرادعة عن الشرور والمنكرات، والقاصمة للشبهات والشهوات. وهو الحصن الآمن للمسلم إذا حزبه أمر، أو أصابه ضر. والإيمان دعامة القيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي هي مبعث قوة الفرد والمجتمع. ومبعث وحدة الأمة وجمع شملها، وتماسك بنيانها. يقول صلى الله عليه وسلم: ” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُد بعضه بعضًا”(رواه مسلم من حديث أبي موسي رضي الله عنه).

وللقرآن الكريم أسلوبه الرائع في تثبيت العقيدة وترسيخها في القلوب. وذلك عبر توجيهه ـ المُكثف والمتعدد والمتنوع ـ النظر والفكر والعقل لتدبر آيات الله تعالى في الكون والآفاق، كذلك ما تنطوي عليه النفس البشرية من آيات باهرات. ولفت الأنظار لتتدرج من المحسوس المُشاهد، إلى المعقول المُتيقن. والتحول من النظر “إلى الشيء”، للنظر “في الشيء”. كما في قوله تعالى: “أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ” (سورة الغاشية، الآية: 17). وقوله سبحانه: “أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.” (سورة الأعراف: الآية: 185).

وكذلك للارتواء من منابع المعارف، والسباحة في أنهار العلوم: “وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ” (سورة الذاريات، الآيتان: 20-21). وهذا التوجيه القرآني يثمر برد الإقرار بوحدانية الله تعالى، وعظيم قدرته، وروعة تقديره. فينبع الإيمان من أعماق النفس، ومن صميم الفكر. ومن ثم توثيق أرتباط المسلم بربه، وحسن مراقبته لخالقه، وخالق هذا الكون الهائل الفسيح. وأنه ـ تعالى شأنه ـ يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور. ويتجه لتحقيق ذلك عبر الإكثار من: العبادات (من صلاة وصيام وزكاة وحج)، وذكر الله تعالي الذي تطمئن به القلوب. مع إحسان المعاملات مع الناس جميعًا.

أما الإيمان باليوم الآخر فيثمر تقوي الله تعالي، ومراقبته، ومحاسبة النفس علي كل صغيرة وكبيرة: “فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” (سورة الزلزلة: الآيتان: 7-8). وهذا الإيمان هو خير وقاية من التمادي في الشرور والظلم والعدوان والفساد والإفساد في الأرض. فإن الإنسان إذا تيقن أنه سيبعث بعد الموت وسيحاسب عل ما قدم من صالحات وعلي ما اجترح من سيئات. فإن هذا اليقين، والذي يـُثبته ويُرسخه آيات قرأنية، وأحدايث نبوية، وشواهد كونية، ودلائل عقلية، سيكون دافعا لفعل الخيرات، ورادعًا عن الموبقات: “زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” (سورة التغابن: الآيتان: 7-8).

(الحياة الرشيدة في الإسلام)

ويستتبع الإيمان بالله تعالى وبالحساب والجزاء في الآخرة. العمل الصالح. يقول تعالى: “وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (سورة المزمل: الآية: 20). فمن عرف الله تعالى حق المعرفة. عرف استحقاقه للعبادات والذكر والشكر والطاعات. وعرف استحقاق النفس للإغتراف من الحسنات والفرار بها من المُهلكات. وعرف استحقاق الناس والخلق جميعًا لحسن الأخلاق والمعاملات. فهل بعد ذلك من حياة. فردية ومجتمعية رشيدة؟ والحث علي العمل الصالح كثيرًا ما ورد في الذكر الحكيم، والهدي النبوي الشريف. يقول جل شأنه: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (سورة النحل، الآية: 97)، ويقول سبحانه وتعالي: “. فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا” (سورة الكهف، الآية: 110).

(الحياة الرشيدة في الإسلام)

إقرأ أيضاً:  ماذا يقرأ زعماء العالم؟

مساحة إعلانية


المجتمع الراشد

بعد أن صاغ الإسلام الفرد المسلم وبني عقيدته الصحيحة، وعبادته السليمة، وأخلاقه الكاملة، ومعاملاته الفاضلة. يتجه لوضع الركائز القوية للحياة الإجتماعية. ويتدرج من الأسرة ومحيط الأقارب، إلي الأسرة الأكبر مجتمعيًا. ثم إلي الأمة الإسلامية فالإنسانية جمعاء. فالأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع. والمحضن الأول لتفريخ الأفاضل. ففي رحابها ينمو الأفراد وتتشكل المُعتقدات، ويغرس حب المحافظة علي العبادات، تتكون السلوكيات والعادات، وتؤسس المعلومات. فإذا أُسس بنياتها علي التقوى والصلاح والرشاد والنهج السليم كانت أقوي دعائم المجتمع الراشد والأمة الرشيدة: “أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (سورة التوبة، الآية: 109).

وقد أحاط الإسلام الأسرة بالرعاية ورسم لها منهاجها القويم منذ بدء تكوينها. فوضع أسس حُسن أختيار الزوجين. وأسس المعاشرة الحسنة: “. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. “. (سورة النساء، الآية: 19)، وطرائق استقبال وتعُهد ورعاية وتربية الأبناء. كما وضع منهج إرشاد الأبناء لحسن البر بالآباء، والتوصية بهما، ووجوب إحترامهما ورعايتهما (كبارًا كما ربوهم صغارًا): “وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” (سورة الإسراء، الآيتان: 23-24). كذلك لم يترك سبل حل الخلافات إذا ما دب شقاق أو نزاع بين الزوجين: ” وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا” (سورة النساء، الآية: 35).

وبعد رعاية الوالدين يُسدي القرآن الكريم النصح بالإحسان إلى ذي القربى، وصنوف شتى ممن يقعون في محيط العلاقات الإجتماعية: ” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا” (سورة النساء، الآية: 36). ومن هديه صلى الله عليه وسلم قوله: ” لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ”(من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، صحيح مسلم برقم: 4650). وليس من شك في أن رباط الإيمان والعقيدة ـ كركيزة أساسية لقيام المجتمعات الرشيدة الصالحة الآمنة ـ هو أقوي الروابط التي تجمع الناس جميعًا.

(الحياة الرشيدة في الإسلام)

إقرأ أيضاً:  الموضوعية الغائبة

مساحة إعلانية


الأمة الراشدة – الحياة الرشيدة في الإسلام

يهتم الإسلام بتكوين “الأمة” علي هداية قويمة، وأسس سليمة، وأصول راسخة منها: الحق، والخير، والإتحاد.فالحق، الذي تحميه القوة العاقلة، ميزان العدالة، ودعامة المساواة، ولب المعاملة السليمة بين أفراد الأمة. وعلي هديه توزن أعمال الناس: “وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (سورة الأعراف، الآية: 8). وأما الخير فمنبع الرفق والرحمة والتعاطف والتكافل والتراحم والفلاح: “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (سورة آل عمران، الآية: 104). ولا جدال في أن الإتحاد منعة وقوة، والتفرق ضعف وخيبة: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا. “. (سورة آل عمران، الآية: 103).

ولكن عندما يضعف “جهاز المناعة” والذي يتولي الدفاع عن الإنسان ضد مسببات الأمراض، يصاب المرء بعلل عديدة، ويصبح عُرضة للمزيد.ولن يُكتب له شفاء من عِلة، أو عافية من مرض إلا إذا انتصر البدن وفي لبه “جهاز المناعة” في التغلب علي مسببات ذلك الداء، وتلكم العلة. ولعل الأوطان والأمم شأنها شأن الأفراد يسري عليها هذا “القانون البيولوجي”. تقوي وتضعف وتمرض وتشيخ. وقد تموت، إذا ما استجابت لهجمات أعدائها في الخارج، وللمُرجِفين والحاقدين والفوضويين والطابور الخامس في الداخل. يروي “البخاري”أن”جَابِرًا” رَضِي اللَّه عَنْه َقُالُ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ مَا شَأْنُهُم؟ “، ْ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ”، وَقَالَ عَبْد ُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ أَلَا نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْد ِاللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ”(رواه البخاري برقم: 3257).

ولقد ساء يهود تألف الأوس والخزرج بإسلامهم وكونهم الأنصار المؤازرين لإخوانهم المهاجرين. يذكر ابن إسحاق وغيره في السير، أن رجلا من يهود مر بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما بهم من الاتفاق والألفة، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم “بُـعاث”، وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم علي بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلي “الحرة”، فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاتاهم، فجعل يسكنهم، ويقول: ” أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم”، وتلا: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (آل عمران: 103)، فندموا علي ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم أجمعين.

و”ما أشبه الليلة بالبارحة”. فهؤلاء الناعقين كالبوم يثيرون ثائرة المجتمعات والشعوب من أجل صنع أعداء وهمين، هم شركائهم في الوطن أو جيرانهم في الأوطان. إنها غفلة بل تغافل عن العدو الحقيقي، ونخره كالسوس في جسد الأمة. فالأمة الإسلامية محور”جهازها المناعي”: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (آل عمران: 103). اعتصام ووحدة وتوحد وأخوة وألفة.

لذا كان تأكيده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحذيره الشديد لأمته في حجة الوداع: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا فَو َالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”(رواه البخاري من حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا: برقم1623).

فعلي أوطاننا وأمتنا تقوية “جهازها المناعي”. ورأب الصدع في وحدتها الداخلية، ونسيجها الإجتماعي، وحماية أمنها الخارجي، ووأد الفتن “ما ظهر منها وما بطن”. وألا تنحرف عن مسارها الذي اختاره الله تعالي لها أمة خاتمة. موحدة متحدة وواحدة. أمة التوحيد والوسطية، والعمل والإتقان، والعدل والعدالة، والشهود والشهادة علي باقي الأمم. ولكونها الأمة الخاتمة ـ بمواصفاتها وقيمها تلك ـ قد تضعف وتصيبها علل. لكنها لن تموت بإذن الله تعالي، فالمستقبل لها، لكن خيريتها وعافية”جهازها المناعي” وقوته مرهون باعتصامها بحبل الله المتين، وسنة رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم، وعمل وجهد وجهاد الصالحين المُصلحين.
والخلاصة: سعت الأمم، قديمًا وحديثًا، لتضع لنفسها نظامًا “للمدينة الفاضلة وللحياة المثالية”.

كما فعل “أفلاطون“في”جمهوريته”، والرومان في قوانين حياتهم، والغرب (الرأسمالي)، والشرق (الإشتراكي) في “ثوراتهم” لتحقيق ما سُمي بـ”الإخاء، والحرية، والمساواة، والعدالة، وحقوق الإنسان”. لكن من فضل علينا أن جعلنا مسلمين. ولقد جاء الإسلام للبشرية، فرادي ومجتمعات، بمنهاج قويم في تربية النفوس وتنشئة الأجيال وتكوين المجتمعات والأمة. وبناء الحضارات، وإرساء قواعد السلام والهداية والاستقامة والمدنية الزاهرة: ” قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15)يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)” (سورة المائدة).

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

(الحياة الرشيدة في الإسلام)

إقرأ أيضاً:  تراجع "الإسلاموفوبيا" في أوروبا: بريطانيا نموذجًا


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

القيم الإسلامية، والمجتمعات البشرية

الأثنين مايو 23 , 2022
تمت قراءته: 1٬480 لا يوجد مجتمع بلا قيم، أو اتجاهات “تجريدية”، واجبة ومـُحددة لتوجه وسلوكيات أفراده نحو مختلف الموضوعات. وهي إحدى المؤشرات الدالة على (نوعية حياة) المجتمعات، ومستوي تحضرها، ونسق تفكيرها. وبوصلة تعديل سلوكها، واختياراتها المستقبلية. كما إن “ماهية” الفرد والمجتمع، وتيار أفعالهما ونهج معاملاتهما، رهن بنسق تلك القيم المتبناة […]
القيم الاسلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة