المَها في الثقافة العربية

لجمالها، ورشاقتها، و”رمزيتها”، بل و”اسطوريتها”. نجت من الانقراض، معنى ومبنى. ذلك الشبح المخيف الذي يطارد العديد من “بنية” الأحياء، وبنائها، و”ثقافتها”. مما يخل بالتوازن البيئي، والتنوع البيولوجي، و”الجفاف الثقافي”. ولهذا، وغيره، تكللت بالنجاح جهود الحفاظ على “المَها العربي”. ولما لا تبذل من أجله الجهود وهو الحيوان/ الرمز/ الأسطورة/ الرشيق، صاحب التاريخ العريق. (المها في الثقافة العربية)

المها في الثقافة العربية
المها في الثقافة العربية – محبي الجغرافيا

“المَـها” بالفتح: جمع (مَهاة)، وهى “البقرة الوحشية”. ويسمي “المَها الأبيض”باسم”المها العربي”أو”الوضيحي” (لوضوح رؤيته)، وللونه الأبيض الخ. ومجموعة “المها” تسمى (الصور، والربروب، والآجل، والسرب، والحنظلة). وقد تختلف التسميات من بيئة لأخرى. وعلميًا. يطلق علي “المها” اسم “أوريكس” Oryx. وقد صك اللفظة قدماء الإغريق والرومان لوصف نوع من البقر الوحشي عرف آنذاك في مصر القديمة وشمال إفريقيا.

وكانت الكلمة تعني: “مِعوَل”، أو “أزمة حجّاري” ذات الرأس المُدببة. وتستعمل كلمة “أوريكس” الآن كاسم جنس من البقر الوحشي ومشتملًا على أنواع مختلفة منه. فمن أنواع المها هناك ثلاثة رئيسة معروفة: أوريكس ليكوريكس leucoryx Oryx (المها الأبيض العربي)، وأوريكس بيزا beisa Oryx، وأوريكس غزالي Oryx gazella.

والمها العربي قوي، رشيق، جسمه أسطواني، متناسق البنية. وهو الأصغر بين أنوع هذا الجنس، ويصل وزن البالغ منها 60- 90 كغم. والعمر الافتراضي للمها مابين 13- 19عامًا. وتكون جاهزة للتكاثر بعد 2.5سنة من عمرها، حيث تلد عجلها بعد فترة حمل تبلغ 8.5 أشهر وتلد مرة واحدة في العام. وتبدو الذكور والإناث في هيئة متماثلة (لكن الذكور رقابها أغلظ). له أقدام طويلة، وأظلافه مفلطحة تتوائم مع الركض السريع الثابت على الأراضي الرملية.

ويكسو بدن البالغين شعر لونه أبيض كامل (يعكس أشعة الشمس) مع علامات داكنة على الوجه وقواعد القرنين، ووسط الصدر، ومقدمات الأرجل، ونهاية الذيل. ويظهر في بعض الأحيان شريط على الخاصرة. وله قرون طويلة مدببة مستقيمة، أو منحنية قليلًا للخلف، وذات حلقات. لذا عبر عنها “بالمعول”أو”بالأزمة الحجّاري”. وعادة ما تكون قرون الإناث أنحف من القاعدة مقارنة بقرون الذكور. وتضفي هذه القرون عليه مسحة من قوة، ومن المعروف أن المهاة المجروحة حيوان خطير يجدر الإبتعاد عنه.

إقرأ أيضاً:  حيوانات استغلت في التجسس

مساحة إعلانية


من الانقراض إلى إعادة التوطين

المها في الثقافة العربية
محبي الجغرافيا

يعتبر المها العربي واحدًا من أندر ” الظلفيات، المجترات الصحراوية” المتأقلمة من بيئتها. تحملًا، وتغذية وتروية، وطرق تكاثر، ووظائف أعضاء، وسلوكيات. وهو يهاجر – دومًا – سعيًا وراء المرعى (تقطع نحو 74كم في 12ساعة/ يوميًا). وهي ظاهرة تفسر كثيرًا طبيعة انتشاره عبر التاريخ. قديمه وحديثه. ففي الأزمنة القديمة. انتشر المها الأبيض، في مناطق عدة من شبه الجزيرة العربية. وامتد وجوده شمالاُ إلي العراق، وشرقًا نحو الخليج. ووجد نقش فني جميل لمها في قبر من العصر البرونزي في منطقة حلى Hili بدولة “الإمارات العربية المتحدة”. كما توجد شواهد دالة على تواجدها في الصحراء الشرقية لمصر القديمة. وشكلت شبه جزيرة “سيناء” حلقة وصل بين هذا التواجد الحيوي، ومثيله بشبه الجزيرة العربية.

وذكر “الجاحظ ” المها العربيّ في كتابه “الحيوان” ضمن أنواع الحيوانات التي عاشت في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق. وأُشار إلي أن “المها” ذكرت في العهد القديم على أنها “الحيوان الأسطوري أحادي القرن”، حيث يُترجم اسمها العبري “ريم”أو”رِئم”، أو “رعيم” إلى هذا الإسم. فـ “رِئم”(THE RE’EM): “حيوان يرّجح بأنه (الأوروخس) وهو نوع من الثور وُجد قديمًا غير أنه انقرض، وله قوة هائلة”.

وثمة كلمة مقابلة “للرئم” هى كلمة “أحادي القرن/ (اليونيكورن) “Unicorn”. ويعتقد أن “المها العربي”، والتي تبدو للناظر لها من جانب أنها ذات قرن واحد، وراء نشوء “أسطورة أحادي القرن”. تلك “الأسطورة” التي تصف “حيوانًا يتشابه – بدنيًا – مع المها والحصان، وذو قرن واحد، عادة ما يكون مستقيمًا وطويلًا، وقد يكون به أخدود حلزوني”. وثمة اختلاف ميثولوجي علي وصفه الشكلي والبدني (حصان أبيض، ظبي، آتان، خروف، ماعز، أو كائن أقرب إلى أبي الهول)، والمعنوي والرمزي. وأصبح “اليونيكورن” رمزًا للقوة والسرعة والشراسة، ولا يمكن صيده. كما تقتصر أهميـّة أسطورة الـ (يونيكورن) على انتشارها وكونـها مصدرًا للإلهـام، والسمـو الروحيّ، والتغيـُّر للأفضـل فحسب، بل الاعتقـاد بأن قرنـه مصدر شفـاء للعديد من الأمراض، وله قدرة علي الوقاية من السموم.

وكتب الرحـّالة الايطاليّ (فيرتومانوس) في العصور الوسطى بأن (اليونيكورن) يملك أقدامـًا مشقوقة كالماعز. ويختلف معه العديد ومنهم (أرسطو) و(بلايني) و(سولينوس) الذي يصفون أقدامه بأنهـا مستوية. ولعل أقدم وصف لليونيكورن يوجد في ملحمة “جلجامش”، كوحش كبير بعنق طويل، وقرن مقوس.

إقرأ أيضاً:  استبكاء الحمائم

مساحة إعلانية


“يونيكورن” عربيّ – المها في الثقافة العربية

أشار “فيرتومانوس” أثناء تجواله بشبه الجزيرة العربيـة عام 1503م بأن العرب يملكون تراثــًا ضخمًا لليونيكورن. وروى أبو التاريخ “هيرودوت” بأنه رآه في “ليبيا”. وتحكي روايات وجوده بين جنوب “مصر”، و”أثيوبيا”. ولعل أقدم تسجيل معروف عن صيد المها – كرياضة وللتغذية بلحمها، وتربيتها وإنمائها – يعود إلى 3000 عام قبل الميلاد.حيث وجدت المها محفورة بدقة، ومُصورة بألون مُدهشة علي حوائط المقابر الفرعونية (بلدة بني حسن/ بالمنيا)، وأوراق البردي. ولهذا الإزدهار. سميت منطقة “بني حسن” باسم “اوريكس”. وكانت هذه المحافظة هي إحدي المحافظات المصرية القديمة الاثنتين والأربعين. وأعطيت رقم (16) في مصر العليا. كما اتخذت المحافظة (محافظة أوريكس، أو المها، أو هيراكنوبوليس) رسم “المها” رمزًا لها. بينما يتباهى حكامها بما يصطادونه منها ومن غيرها من الحيوانات. فكتب الحاكم “أميني” (حوالي 1900ق. م.) عن اصطياده وتربيته لعدد 300 من الماشية من ضمنها المها.

وحديثًا. وتسببت قلة الأمطار، وندرة المرعى، وازدياد معدلات صيده في شمال شبه الجزيرة العربية في هجرة فلول المها العربي المتبقية إلى مناطق منعزلة هادئة في جنوب شبه الجزيرة العربية. حيث عاشت في جماعات متفرقة في بعض الروضات بالجنوب الشرقي منه، وشرق الربع الخالي بالقرب من حدود المملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان. ومنذ ثلاثينيات القرن الفائت. ثمة معلومات جِد مُحيرة عن التناقص الكبير لأعداد المها في الصحراء العربية وبلاد الشام ومصر، وانطوائه تحت شبح الانقراض.

في عام 1962م تم تأسيس “القطيع العالمي للمها العربي”. وداخل حديقة “فونيكس” في الولايات المتحدة الأمريكية جرت عملية إكثار (تزاوج) للمها العربي. ولعبت هذه الحديقة دورًا رئيسًا في إنقاذه من الانقراض. وبدأ برنامج الإكثار بتسع حيوانات وحققت الحديقة ما يزيد عن 200 ولادة ناجحة ووفرت حيوانات لحدائق حيوان أخرى، ولمشروعات إعادة التوطين في الشرق الأوسط. ثم سرعان مع شرعت أعدادها تتزايد تدريجيا إلى أن صعدت مؤخرًا من رتبة الحيوانات المهددة بالانقراض إلى رتبة الحيوانات المحتاجة الى اهتمام (vulnérable). وذلك حسب معايير الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة “UICN” ولائحتهم الحمراء التي تضم 59.508 نوعًا من الحيوانات المصنفة إلى ثلاثة أقسام حسب حدة وخطورة التهديد بالانقراض.

فبحلول عام 1990 كانت أعداد المها العربيّة قد إرتفعت إلى ما يزيد عن 1300 رأسا بما فيها 112 فردا مولودين في الأسر وتمت إعادتهم إلى محميّات في البريّة. ونجحت عملية الانقاذ من الإنقراض بفضل جهود حكومية وفردية “غير مسبوقة” وظهور المحميات الطبيعية للمها في عدد من الدول العربية على رأسها “الإمارات العربية المتحدة” (كمحميّة جزيرة صير بني ياس ومنتجع المها)، والمملكة العربية السعودية (كمحميّة عروق بني معارض)، وسلطنة عمان. وتعد دولة “الإمارات العربية المتحدة” حاليًا أكبر موطن يضم نحو نصف مجموع تعدادها في العالم العربي.

ورأت “قطر” إعادة توطين بعض أعدادها، ورعتها بمنطقة الشحانية (كمزرعة السليمي الخاصة)، كما وضعت بعض أعدادها في حديقة الحيوان. وأطلقت عددًا لا بأس به ليعيش حياته الطبيعية، وحظرت صيده، وما زالت الجهود الحكومية والفردية مستمرة. وقدِ اتخذت بعض مؤسساتها الرسمية والخاصة المها “شعارًا” لها، ومنها الخطوط الجوية القطرية، والمجلس الأعلى للبيئة والمحميات الطبيعية، ومؤسسة “المها” للتجارة.

والخلاصة: لقد نجت المها العربية، وعيونها، من شبح الانقراض، وبذلك دخل السرور على قلوب العرب. إذ بات في المقدور رؤية قطعان المها “الرمز/ الأسطورة/ الرشيق، صاحب التاريخ العريق” تطوف في الكثير من السهول والبراري العربية حيث ينتمي. في حين أن قطعانًا أخرى تعيش في حدائق الحيوان في العديد من دول العالم.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

(المها في الثقافة العربية)

إقرأ أيضاً:  تأثر اللسان العربي بالتركي


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

"الفن السابع" يعالج الجائحات

الأحد سبتمبر 26 , 2021
تمت قراءته: 5٬616 أدى وجود مئات الملايين من سكان الأرض في منازلهم معظم أوقات اليوم إتباعاٍ لتعليمات الحجر الصحي، إلى إقبال غير مسبوق على مشاهدة الأعمال السينمائية التي عالجت موضوع الجائحات/ الأوبئة. فإذا كان وباء “كورونا” العالمي قد أرغم الجميع على العزل والحجر وحظر التجول وفتكّ بمساحات من الحياة اليومية، […]
"الفن السابع" يعالج الجائحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة