يوميات متعلم- الجزء الأول

مقدمة

في صغرنا -ذوي الحظ منا- كانت لمفاهيم التربية لدينا قدسية تدنو لقيد بضعا من المرات، ولكنها كانت محببة لنفوسنا إذا ما مارسها محب لنا أو إذا ما أدركنا فى صغرنا ماهيتها الفكرية. (النظام والعشوائية)

النظام والعشوائية
بوابة الأهرام

١- الأنا بعيون الآخر – النظام والعشوائية

كنا نُلاقى معلمنا بكلماته التشجيعية الكبيرة كأن يصف أحدنا بالدكتور، والآخر بالبروفيسور، مدللا زميلنا بالزعامة فهو رئيسنا، والمسرح ملك لفنانينا المتألقين بأصواتهم الذهبية خليفة أعرق المطربين، وأناملهم الساحرة المنشقة من أذرع كبار ملحنين التاريخ، وإلقائهم وتحركاتهم المرسومة ككتاب مختص في فن التمثيل المسرحي ومواجهة الجمهور، و. و. و. وكأن منا صانعو مجد لم يكن له مثيل في تاريخ الحضارات يوما.

وفى توازٍ محير كنا نتعلم فى دروس كُتبنا أن المبالغة داء ومن حسن المرء أن لا يتحدث عن عظمته مهما بلغ وأن الأفضل هم من يجنبون أحاديثهم الحوار عن ذواتهم.

فنشأنا بين بين لا نحن هؤلاء من يُكثرون الحديث عن أنفسهم ولا نحن من لا يقدرون ذواتهم، ولوزن تلك المعادلة تعلمنا أن يهب كلا منا للآخر حقه بالذكر والتكريم والإشادة فبهذا توثق الحقائق بألسنة شهود حق تعلموا كيف يمتلكون وكيف يكون الوهب عن وعى حقيقى.

إلا أن الأمور لا تسير بمثالية الأمانى فكان من البديهي أن ينبت من بيننا من تختل لديه الكفتين أو إحداهما لتدمر الأخرى معها بلا هوادة لنرى بيننا من يتحدثون عن أنفسهم بما لا يملكون ويتناسون قدراتهم من كثرة انشغالهم بتسفيه الآخرين والتقليل منهم بل منهم من أجاد بقدرة فائقة سرقة مجهود الآخرين والتباهي به.

ولأني من متبني نظرية أن لا جمال إلا بالقبح أو كما يُفصل الأمر بأنه لا تظهر قيمة الشئ إلا بوجود الضد فى حيزه، فإن وجود نماذج مسيئة للفكرة أمر بديهي لا يستدعى المقاومة ولا يُحاسب عليه القائمين على التربية بل هو فى حد ذاته وتد يوثق جمال الأمر.

لكن ما يتناساه معلمونا درسا له من الأهمية جلل القيمة فلم يخبرونا يوما كيف هو السبيل الأفضل لمواجهة الضد فى طريق طويل مليء بعقبات أخرى جنبا إلى جنب؟

ربما يجب أن يخبرونا أن المواجهة ليست بقيمة ولا تستحق إضاعة الوقت، وأن التجاهل قوة أحيانا ولكنها قوة مقيدة إن كانت تعزز من الضرر، فلندخر قوتنا لرد الضرر وفقط.

وربما ببعض التعمق فى دراسة كينونة الأنا الفلسفية يمكننا النجاح في تقبل بعض من خلل النرجسية، فقد نحبها ونكره اختلالها وندعمها ببساطة أرواحنا قبل الفهم.

وربما سنتعلم معهم تقبل الآخر مهما كان على النقيض ففي النهاية لا وجود لشر مطلق وخير كامل فكل شر داخله بصيص خير وكل خير قد يحمل شرًا يوما.

وربما سيخبرون نظريتي الخاصة المحببة عندي بأن لا يهم ما يفعله الضد أو ما يحدث معه ليس من باب التجاهل ولكن لأني أكثر انشغالا بما يحدث لي.

أيا كان الدرس الذى يجب أن نتعلمه فهو لا يتأتى إلا بتراكم من خبرات تخوضها بكامل هيئتك متحملا كافة صفعاتها لتصنع بيدك خريطتك الخاصة فى طريق مليء بالأشياء وأضدادها.

إقرأ أيضاً:  سلطان المال

مساحة إعلانية


٢- تناغم النظام وشدو العشوائية بين بين

تلك الشعيرات المنمقة كالبنيان المرصوص مع تناغم الخطوات المرسومة ونظرة تُحتسب بها عدد حركات الجفن هم دلائل قوية لمدى تنسيقية حياة توجه لك كل صباح دعوة بالنظام، هكذا كان معلمي منذ الصغر.

ربما يصادفك الحظ فتلتقي كيان متميز مثل ذاك الساطع فى سماء الحياة مرة واحدة ولكني كنت أكثر حظا لألتقي الكثير على مدار سنوات متنوعة الفكر والتلقي، فلا عجب أن تجدني عاشقة للنظام مقدرة أهمية توليه الأمور أو ربما لامس وجودهم جانب خاص فى تكويني الفطري.

النظام كلمة تحوي كل ما تحتاجه لخلق جيل يُقدر المسئولية ويملك أدوات احتواء مجتمعه بكافة اختلافاته، والنهوض بأمته على جميع الأصعدة، فكان من بديهيات النشأة التعرض له في محاولة لاكتسابه أو على الأقل جعله عادة فى سلوكياتنا اليومية.

ولعل ذلك كان السبب الرئيسى فى تصادمي مع كل ما هو عشوائي حتى أدركت ما فيه من جمال ودقة، نعم كما قرأتم دقة فقد تعلمت مع العشوائية أنها أفضل نماذج الضد الذى يُدعم المعنى ويؤكده، ربما علمتني الفيزياء ذاك المعنى وربما تلك النظرة الفلسفية التي لا تُخطأ العلوم صديقا هي ما أرشدتني إلى انتساب المفاهيم لضدها في النهاية، أو لعل حبي لعشوائية ملاكي الحارس المنظمة المبهجة هي ما دوت منيرة ببسمتها اللامتناهية مهما مر بنا.

اليوم أدين بجزء من قدرتي التنظيمية لكل من مر بي منوهًا عنها وأدين بجزء من حبي للآخر لكل من آراني الجمال فى كل معنى وضده الصاحب، تحياتى لكم جميعا.

إقرأ أيضاً:  مت وأنا على قيد الحياة

مساحة إعلانية


٣- التعلم في كنف الصحبة – النظام والعشوائية

لعل أهم ما يطمح إليه البنّاء محاولته الحفاظ على أعلى مستويات التماسك الجزيئي، وهذا ما يستهدفه المنوط بهم التربية أيضا فخلق إنسان متماسك تحدى خاص ومنهك على كافة الأصعدة.

وفى تلك الرحلة ستختلف مفاهيم ورؤى التماسك بين الأشخاص ما بين مهتم بجانبها النفسي أو الفكري أو تلك الروابط الإجتماعية أو من يرى اجتماعهم كافة، ولكنها مع ذاك التباين ستتفق أن الناتج يجب أن يكون شخص قادر على مواجهة تقلبات الحياة لا بتجنبها ولكن بقدرته على التعامل معها مهما كانت اختلافاتها عن المنطق أو المتوقع.

أن تدرك أهمية ذلك التناسق فى عملية التربية أمر جلل غالبا ما يتداركه البعض بالفطرة ونادرا ما يرمي به البعض عن قصد.
كيف يجب أن يكون المربي ليرسخ أسس التعامل مع الحياة تلك هي المعضلة، فكونك مهيأ لذلك غير كافى فالأمر يحتاج بقوة إلى مساندة وإن ندرت فى مساحاتنا الضيقة بمجتمعاتنا.

وفى بحثنا الدائم عن المثالية مررنا مع معلمينا بتلك المعضلة دون قصد فى الأغلب ونادرا عن قصد، بقدر بسيط علمتنا الكلمات المأثورة أو الحكايات السابقة أو النظريات المتنوعة ولكنها لم تصل قط لقدر ما علمتنا التجربة، فإن تصاحب معلمك لتخوضا سويا التجربة تلو الأخرى درسا قيما لا يضاهيه عشرات الحكايات.

واليوم قد زاد وعينا بعض الشيء ونما بنا إجلالا لتلك الصحبة التى كانت خطوتنا الأولى لبناء كيان متماسك قادر على التأثير والمواجهة.

ولعل فى سحر كلمات الشكر خطوة أولى للامتنان بصحبتكم معلمينى البنائين بجدارة. شكرًا لصحبتكم الودودة المعطاءة بلا انتظار.

ندى الصناديقي

(النظام والعشوائية)

إقرأ أيضاً:  مغالطة رجل القش


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

القواقع الصالحة للأكل.. زراعة المحار

الأثنين فبراير 21 , 2022
تمت قراءته: 2٬018 منذ زمن بعيد، تشكل القواقع – وبخاصة لسكان المدن والبلدان الساحلية – غذاء لذيذاً، ودواء مفيداً. وعبر كثير من البحار، والمحيطات، والخلجان، ومصبات الأنهار.. توزعت تجمعات طبيعية كبيرة من هذه القواقع. أما اليوم فيتم استزراعها، وتربيتها في أحواض خاصة كونها تشكل تجارة رائجة لقيمتها الغذائية العالية. (القواقع […]
القواقع الصالحة للأكل.. زراعة المحار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة