بسم الله الذي أنزل الفرقان علي محمدٍ، وجعله هدى ونور يهدي به من يشاءُ الى سبيله أمّا بعد:
إن لغة القرآن من أفصح وأبلغ اللغات التي عرفتها البشرية، فقد نزل في القرآن الكثير من المواعظ والحكم وقصص السابقون، وقد شملت سورة الكهف عددا من القصص ذات المغزى والموعظة الحسنة، وعددها خمس قصص. (قصة أصحاب الكهف)
أمّا عن سبب نزول تلك السورة يقال: أنه لما كثُر عدد المسلمين وأصبح الوافدون من القبائل العربية إلى مكة يُكثِرون السؤال حول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل المشركون رجلين هما النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى المدينة المنورة ليسألوا أحبار اليهود فيها عن رأيهم في أمر محمد -عليه الصلاة والسلام- ودعوته، وحين أتَوْهم وصفوه لهم وأخبروه بما يقول، وطلب الأحبار منهم أن يسألوه عن ثلاثِ مسائل، فإن أجاب عنها فهو نبي، وإن لم يُجب فهو يدّعي النبوة.
وكانت المسائل الثلاث عن أمر فتيةٍ في الأمم السالفة، وعن ماهية الروح، وعن أمر رجلٍ جاب الأرض مشرقها ومغربها، فلما رجعوا ذهب عددٌ من مشركي قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وسألوه عمّا أخبرهم به اليهود، فأجابهم أنه سيخبرهم بجواب ما سألوه غدًا، ولم يقل إن شاء الله، فتأخّر عنه الوحي ثلاثة أيام، وقال ابن إسحاق أن الوحي تأخّر خمسة عشر يومًا، فشقّ ذلك على رسول الله -عليه السلام- وحَزِن، ثم أنزل الله -تعالى- جبريل بسورة الكهف متضمّنة لجواب سؤالهم عن أمر الفتية وذي القرنين، أما أمر الروح فقد نزل في سورة الإسراء، وأنزل الله -سبحانه- مع الجواب توجيهًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ( وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24)) [الكهف].
(قصة أصحاب الكهف)
مساحة إعلانية
قصة أصحاب الكهف
ونبدأ بأول القصص ألا وهي قصة أصحاب الكهف؛ وفقا للاعتقاد السائد فإن أصحاب الكهف، الذين أثنت عليهم المصادر الإسلامية والمسيحية، تعرضوا لطغيان الإمبراطور الرومانى ديقيانوس، وفي محاولة من هؤلاء الفتية للتصدي لظلم ديقيانوس وطغيانه، حذروا قومهم مرارًا من أن يتركوا دين الله، ولكن أمام إعراض قومهم، واشتداد ظلم الإمبراطور وتوعده لهم بالقتل، ترك الفتية مساكنهم.
وأما عن ما تم ذكره عن أصحاب الكهف، يقال: إنهم فتية من الرومان الذين آمنوا بالله وتركوا عبادة قومهم عبادة الأوثان وعبدوا الله وحده هكذا يطلق عليهم عند المسلمون ويطلق عليهم عند المسيحيين السبعة النائمون الذين عاشوا في عهد اضطهاد المسيحيين وكان ذلك في ظل حكم ديقيانوس، وتعدّدت آراءُ العُلماء في أسمائهم، وأمّا عن قصتهم، فقد ذكر في القرآن الكريم أنه: كانت توجد قرية ُمشركة، ضل ملكها وأهلها عن الطريق المستقيم، وعبدوا مع الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، عبدوهم من غير أي دليل على ألوهيتهم، ومع ذلك كانوا يدافعون عن هذه الآلهة المزعومة، ولا يرضون أن يمسها أحد بسوء، ويؤذون كل من يكفر بها، ولا يعبدها.
وفي هذا المجتمع الفاسد، ظهرت مجموعة من الشباب العُقلاء، قلة قليلة حكّمت عقلها، ورفضت السجود لغير خالقها، الله الذي بيده كل شيء، فتية آمنوا بالله، فثبتهم وزاد في هداهم، وألهمهم طريق الرشاد، لم يكن هؤلاء الفتية أنبياء ولا رسلا، ولم يتوجب عليهم تحمل ما يتحمله الرسل في دعوة أقوامهم؛ إنما كانوا أصحاب إيمان راسخ، فأنكروا على قومهم شركهم بالله، وطلبوا منهم إقامة الحجة على وجود آلهة غير الله ثم قرروا النجاة بدينهم وبأنفسهم بالهجرة من القرية لمكان آمن يعبدون الله فيه، فالقرية فاسدة، وأهلها ضالون، وقد عزم الفتية على الخروج من القرية، والتوجه لكهف مهجور ليكون ملاذًا لهم.
خرجوا ومعهم كلبهم من المدينة الواسعة للكهف الضيق، تركوا وراءهم منازلهم المريحة، ليسكنوا كهفا موحشًا، زهدوا في الأسِرَّة الوثيرة، والحجر الفسيحة، واختاروا كهفًا ضيقًا مظلمًا، إن هذا ليس بغريب على من ملأ الإيمان قلبه، فالمؤمن يرى الصحراء روضة إن أحس أن الله معه، ويرى الكهف قصرا، إن اختار الله له الكهف، وهؤلاء ما خرجوا من قريتهم لطلب دنيا أو مال، وإنما خرجوا طمعا في رضى الله، وأي مكان يمكنهم فيه عبادة الله ونيل رضاه سيكون خيرا من قريتهم التي خرجوا منها، استلقى الفتية في الكهف، وجلس كلبهم على باب الكهف يحرسه، وهنا حدثت معجزة الإلهية.
لقد نام الفتية ثلاثمئة عامٍ وازدادوا تسع اعوام اخرى، وخلال هذه المدة، كانت الشمس تشرق عن يمين كهفهم وتغرب عن شماله، فلا تصيبهم أشعتها في أول ولا آخر النهار، وكانوا يتقلبون أثناء نومهم، حتى لا تهترئ أجسادهم، فكان الناظر إليهم يحس بالرعب لأنهم نائمون ولكنهم كالمستيقظين من كثرة تقلّبهم، بعد هذه المئات الثلاث، بعثهم الله مرة أخرى، استيقظوا من سباتهم الطويل، لكنهم لم يدركوا كم مضى عليهم من الوقت في نومهم، وكانت آثار النوم الطويل بادية عليهم، فتساءلوا: كم لبثنا؟
فأجاب بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم، لكنهم تجاوزوا بسرعة مرحلة الدهشة، فمدة النوم غير مهمة، المهم أنهم استيقظوا وعليهم أن يتدبروا أمورهم، فأخرجوا النقود التي كانت معهم، ثم طلبوا من أحدهم أن يذهب خلسة للمدينة، وأن يشتري طعاما طيبا بهذه النقود، ثم يعود إليهم برفق حتى لا يشعر به أحد؛ فربما يعاقبهم جنود الملك أو الظلمة من أهل القرية إن علموا بأمرهم، قد يخيرونهم بين العودة للشرك، أو الرجم حتى الموت، خرج الرجل المؤمن متوجها للقرية، إلا أنها لم تكن كعهده بها، لقد تغيرت الأماكن والوجوه، تغيّرت البضائع والنقود استغرب كيف حدث كل هذا في يوم وليلة؟
(قصة أصحاب الكهف)
مساحة إعلانية
وبالطبع لم يكن عسيرا على أهل القرية أن يميزوا دهشة هذا الرجل، ولم يكن صعبا عليهم معرفة أنه غريب، من ثيابه التي يلبسها ونقوده التي يحملها، لقد آمنت المدينة التي خرج منها الفتية، وهلك الملك الظالم، وجاء مكانه رجل صالح، لقد فرح الناس بهؤلاء الفتية المؤمنين لقد كانوا أول من يؤمن من هذه القرية لقد هاجروا من قريتهم لكيلا يفتنوا في دينهم، وها هم قد عادوا فمن حق أهل القرية الفرح، وذهبوا لرؤيتهم، وبعد أن ثبتت المعجزة، معجزة إحياء الأموات، وبعدما استيقنت قلوب أهل القرية قدرة الله سبحانه وتعالى على بعث من يموت، برؤية مثال واقعي ملموس أمامهم أخذ الله أرواح الفتية فلكل نفس أجل، ولا بد لها أن تموت.
وقد اختلف أهل القرية، فمنهم من دعى لإقامة بنيان على كهفهم، ومنهم من طالب ببناء مسجد، وغلبت الفئة الثانية، لا نزال نجهل كثيرا من الأمور المتعلقة بهم، فهل كانوا قبل زمن عيسى، أم كانوا بعده؟ هل آمنوا بربهم من تلقاء نفسهم، أم أن أحد الحواريين دعاهم للإيمان؟ هل كانوا في بلدة من بلاد الروم أم في فلسطين؟ هل كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، أم خمسة سادسهم كلبهم، أم سبعة وثامنهم كلبهم؟ كل هذه أمور مجهولة، إلا أن الله عز وجل ينهانا عن الجدال في هذه الأمور، ويأمرنا بإرجاع علمهم إلى الله، فالعبرة ليست في العدد، وإنما فيما آل إليه الأمر، فلا يهم إن كانوا أربعة أو ثمانية، إنما المهم أن الله أقامهم بعد أكثر من ثلاثمئة سنة ليرى من عاصرهم قدرة الله على بعث من في القبور، ولتتناقل الأجيال خبر هذه المعجزة جيلا بعد جيل.
قال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق، قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله، يبكون ويستغيثون بالله، وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم، ومجسيميلنينا وتمليخا ومرطونس، وكشطونس، وبيرونس، وديموس، ويطونس وقالوش.
أمّا عن مكان وجود الكهف، فيقال: أن كهف الرقيم -وهو الكهف الذي لجأ إليه أهل الكهف- يوجد في مملكة الأردن وتحديدا في عُمان، أمّا الأدلة التي وردت عن ذلك، فقد قيل:
أن الاسم القديم لموقع قرية الرجيب في الأردن هو (الرقيم) مما يجعله متوافقًا مع ما ذكر في القرآن الكريم، حيث ذكر في القرآن:
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا» (سورة الكهف: الآية 9).
وبهذا يرجح احتمالية أن قرية الرجيب هو الموقع الصحيح لأصحاب الكهف وذلك بالأخذ بعين الاعتبار وجود أكثر من موقع في الشرق الأوسط يعتقد الناس أنه لأصحاب الكهف، فقد ظهر في الكهف ثمانية قبور وبالقرب من باب الكهف تم العثور على جمجمة كلب (الفك العلوي فقط) وكان حارسهم، كما أن الدلائل التي وجدت في الموقع تشير أن أصحاب الكهف (هذا إذا كان الكهف هو الكهف الصحيح) سبعة من بينهم الراعي، وثامنهم كلبهم، وقد دفن الكلب على عتبة الباب حيث كان يحرس، ولم يدفن في القبر الثامن؛ ولا يعلم بعد لمن القبر الثامن، بذكر ما ورد ذكره في القرآن:
«سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا» (سورة الكهف: الآية 22).
وآخر قولي مثلما قلت أولًا: كل هذه أمور مجهولة، إلا أن الله عز وجل ينهانا عن الجدال في هذه الأمور، ويأمرنا بإرجاع علمهم إلى الله، فالعبرة ليست في العدد، وإنما فيما آل إليه الأمر، فلا يهم إن كانوا أربعة أو ثمانية، إنما المهم أن الله أقامهم بعد أكثر من ثلاثمئة سنة ليرى من عاصرهم قدرة الله على بعث من في القبور، ولتتناقل الأجيال خبر هذه المعجزة جيلا بعد جيل.
سارة عبدالله “أناندا”
كاتبة ومنشدة وقارئة
(قصة أصحاب الكهف)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
سارة عبد الله من مصر. تدرس سارة بالصف الثالث الثانوي “البكالوريا”، اتجهت إلى الكتابة منذ عشرة أعوام، ولها كتاب منشور، تهوى كتابة المقالات الدينية والطبية، تحب المغامرة، والتخييم، والإبحار.