برجاء عودة النكد!

الشفقة والخوف السبيل فى إحياء الفن المسرحى.
أوديب ما أنت إلا ملك الظلام. والبؤس يطاردك فى كل مكان. (برجاء عودة النكد)

برجاء عودة النكد
Business Insider

عندما قرأت مآساة أوديب لأول مرة، مع محاكاة جميع الأدباء والنقاد واعترافهم بأن لا مآساة تضاهي مآساته ونكبته، لأبرهن على صحة الألقاب المآسوية التى حصل عليها.

هذه المآساة الخالدة التى تولد الشفقة والخوف بداخل من يقرأها، وهو الإحساس الذى يريد الكاتب بأن يصل إلى قارئه، ولكن هنيئا لمن يشاهد هذه المآساه بصورة حية على المسرح، فكم من المشاعر المتخبطة والأحاسيس المفزعة عند رؤية النهاية المفجعة التى ظل أوديب يبحث عنها طول المسرحية من إزاحة ستار المسرح وحتى نزوله الذى يحدث توازن فى نفس المشاهد، يوحى له بالتطهير المثالى طبقا لنظرية أرسطو الفلسفية الدرامية من أجل التنفيس، فحقا ما إثارة الخوف والشفقة فى النفس إلا للتنقيب عن غرض جمالى وأخلاقى للمشاهد، وهو ما يجهله الفن الحديث بعبثيته الملحوظة.

لا يوجد لدي أدنى مشكلة فى المآساة الإغريقية ولا النظرية المنطقية للفيلسوف أرسطو لكن فى مآساة اليوم الحالى، التى قلبت الأية والصورة، فأتعجب لأمة يحيا شعبها بأمراض نفسية، وخبايا روحية، وحكايات كارثية تعادل مآساة الملك أوديب بل وتتفوق عليها، لكننا حولنا الحالة الفنية والإبداعية لكل ما يحدث حولنا إلى مسرحيات عبثية تافهة، تستوحى ضحكات وابتسامات مصطنعة متبلدة، وحقيقة لا أود أن أثرها فى نفسى مع احترامى لكل القائمين على المسرح الفنى الحالى فى مصر، أن ما يحدث من أدبا وفنا لا يمكن أن يكون إلا شو إعلامى لكسب المال أو تمثيلية مصغرة تجلب المسخرة والبلاهة.

أأخفقت بلدان الحضارة القديمة أن تصنع حتى من معاناتها اليومية وشقائها وكبتها وبؤسها، وأهوال مصائبها اليومية بأن تصنع بيتا للفن المسرحى يليق بها، فهى تعيش بالبؤس أكثر مما تعيش فى الرخاء والنعيم، الذى يتكون فقط بالمخيلة ولمدة قصيرة، ليأتى بعدها الاصطدام بالواقع المرير، دون الاستفادة القيمة منه، فنحن الآن لدينا فرصة عظيمة لصنع مجد مسرحى، قبل أن ننعم فى الرخاء المعيشى بشكل ملحوظ.

أكل شئ يسير علي مايرام، ولا يستدعى أن نخرج مسرحا يطرب له الأذان والأنظار، ألا يوجد ما يثير بداخلنا الإبداع والمشاعر التى تكمن فى الوجدان، ولو أن هناك حكر على حرية الرأي والإبداع، فهى من المفترض أن تدفعنا لاستخدام ذكاء الألباب فى الهجاء، والتميز فى الرثاء، والتتوق للحب والأشواق، فقط ما لدينا هو مسرح يعمل على إثارة الضحكات الجامدة المستفزة للعقول البلهاء، مسرح لا يثير الشفقة والعاطفة بل يثير اشمئزاز الصفوة من العقلاء.

أبعُدنا كل هذا البعد لكى نصبح على غفلة بأحاسيسنا وأنفسنا، حقيقتنا ووجودنا، بل أصبحنا نسعى في طريق العدم وأن وجودنا ما هو إلا عبث، لكننى أؤكد أن عبث هذا الفن هو الذى سيحقق هذا المبدأ، وسيهدم العقول والذوق والتاريخ، وإذا لم نتصدى لكل هذا الهراء الذى تتنافس فيها القوى المالية، بأن تصنع عبث خاص بها وتضع عنوانا خاصا لها يميز مسرحها الهزيل غير المجدى، الذي تتبلد فيه مشاعرك ويهان فيه ذكاءك وقواك العقلية.

ربما حلًا وحيدًا لدي ضمن حلول كثيرة لدى كبار المفكرين، وهو بان نبدأ بالمحاكاة والتقليد للعتاقة ثم التطوير عليها حتي يوحي بداخلنا شيئا من تلك الغيرة البناءة، التي تمدنا بصناعة فنا يليق بحضاراتنا، فالحفاظ على الأثار المسرحية كما هو الحال فى الحفاظ على الأثار الفرعونية، أعلم أن هناك قائمين على المسرح القومى والبيت الفنى للمسرح وأعلم أن هناك ممثلين بارعين مثل كبير المسرح الفنان محمد صبحى، الذى قام بعمل العديد من المسرحيات العالمية قديما، فلا يوجد منه شئ حاليا سوي ما صور منه على شبكة الإنترنت لا يفهم من صورته القديمة شئ، نريد تجديد واهتمام بالثقافات العالمية حتى نكون جميعنا شعب واعى، لا يوجد فرق بين صفوة الشعب من المثقفين والكادحين فى الحصول على راحة المعيشة فقط، هناك شعب يود أن يتحرر بالفن هناك شعب يحتاج إلى ما ينفس عنه آخر اليوم حتى لا يفكر فى روتينية اليوم الجديد، أو تجديد التراث العتيق الخاص بثقافتنا الفرعونية أو العربية، فمصر بها كتاب عظام أفنوا حياتهم فى كتابة الدراما، لكننا أغضضنا بصرنا عن كل ما هو هادف، فإذا أغفلنا جانب التقليد لابد وأن ننقب ونفتش على مكامن الأعمال الدرامية الجليلة وبما فى ذلك من أعمال أبو المسرح العربي توفيق الحكيم.

(برجاء عودة النكد)(برجاء عودة النكد)

إقرأ أيضاً:  المجلات والصحافة العلمية العربية: العلم في متناول يديك

مساحة إعلانية


ولأن الجمهور في أي مكان هو جزأ لا يتجزأ من حركة الإبداع الفني، فقد ساعد كثيرا الجمهور المصري، في الوصول إلى هذا العبث الذي يحدث على خشبات المسارح عن غير قصد منه، ولأنه إن جد القول شعب “ابن نكتة”، فقد اختزل كل أنواع الكوميدية المسرحية في الكوميدية الهزلية”، ومن هنا توجه القاىمين على الحركة الإبداعية بالمسرح، بتقوقعهم داخل هذه الدائرة بصورة واضحة، لدرجة أن الشباب في العصر الحديث لا يعلمون إلا أن المسرحية لا تسمى مسرحية إلا لو كانت تحمل الكوميديا الهزلية حتى ألامهم ومآساتهم تحولت إلى كوميديا ساخرة، ومن هنا جاء هذا التوجه لمحو أنواع المسرحية الآخرى، وخاصة الكوميديا السوداء، والتراجيديا، التي تخرج من النفس كل كبت دفين، عن طريق دموعنا التي تطهر أرواحنا بواسطة الفن المسرحي، حيث يكون الممثل يقف أمام المشاهد مباشرة وليس من خلال معدن غير محسوس أو ملموس.

وبالرغم من أن مسارح الهواة لم تأخذ حقها بشكل كافي في المجتمع الثقافي، إلا أنها توفر للجمهور الضئيل الذي يتابعها، جميع أنواع المسرحيات سواء العالمية المأخوذة من المسرح الأدبي العالمي مرورا بالتراجيديا المعهودة للمسرح القديم، يتخذون من يوسف وهبى عميد المسرح العربي، ومن الرائعة سناء جميل والريحاني والمهندس وغيرهم قدوة لهم، وبالرغم من هذا يعانون داخل البروفات التي تقام في أماكن غير آدمية ولكنهم يسعدون بها، فلما لا ينضم النجوم الكبار إلى تلك الهواة كضيوف شرف في مسرحياتهم فقط لإنعاش الحركة الأبداعية داخل الوسط الثقافي المصري، وإرجاع مصر مرة آخرى إلى الريادة في المجال الأدبي والمسرحي، فلما لا يرى الجمهور المصري نجوم السينما يعودون إلى المسرح بعمل الروايات الأدبية بصورة مسرحية حتى يتثقف شباب الجيل الجديد الذى لا يأخذ القراءة بابا للمعرفة، لا يعرف غير مقاطع الريلز التي أصبحت كل ثقافته من خلالها، ويعرف عن طريقهم الأدب العالمي القديم والحديث، وينشر لهم بصورة جزئية عبر تلك المقاطع، بعيدا عن خشبة المسرح التي نسترجع بها هيبة أبو الفنون مجددا، فرجاءا نجوم الصف الأول لا تنظروا فقط إلى المكاسب المادية فكروا في بناء أجيال لا تعلم أي شئ غير البلطجة والعبث من خلال ما تقدموه أنتم من فن، وهناك خير مثال لذلك (الملك لير) للنجم الكبير يحيي الفخراني، الذي جعل الجمهور يتهافت على دخول مسرحية شكسبير.

وإذا كان ما يهمكم هو عدم التقليد للغير، فإنى أرى إذا كان التقليد بداية فلا شيئا يعيبها ليس شيئا يعيبها، فانجلترا مازالت تعرض مسرحيات عصورها الوسطى من التى يكمن مضمونها فى المعجزات والألغاز والمسرحيات الأخلاقية، التى توصل رسالة تنمي العقول والافئدة، والتى تطورت فيما بعد بعمل مسرحيات مارلو وشكسبير فى العهد الإليزابيثى الأول.

فكل ما أتمناه فى مصر أن أرى إعلانا يصدمنى ويروج لمسرحية عتيقة، أشعر فيها بهيبة الستار والمناجاه الذاتية وسحر البيان كمسرحية يوليوس قيصر أو هاملت، أو ماكبث، أو يهودي مالطة، أو لأتمنى أوديب الملك حتى اختبر تلك النظرية، نظرية التنفيس الجليلة.

ندى الساعي

(برجاء عودة النكد)

إقرأ أيضاً:  أجواء العالم العجائبي داخل رواية أنا العالم


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

يا أخي أسلوبه!

الجمعة مايو 19 , 2023
تمت قراءته: 701 ذريعة المنافقين الذين يتذرعون به لإسقاط (كركبة من الصفات المرذولة) التي تغطيهم وتتلبسهم على من لم يجدوا عيبا في الورد فقالوا يا أحمر الخدين، فقد أصبحنا نسمعها بكثرة في العمل وفي العائلات وبين مجتمع الأصدقاء حتى أصبحت متداولة كسبب جوهري ورئيسٍ لتمييع الحقائق وهدم العلاقات، ولو سألته […]
يا أخي أسلوبه!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة