لطالما استوقفتني قصيدة نزار قباني منذ سنوات، “هوامش على دفتر النكسة”، تلك القصيدة التي نعى بها الشاعر الوطن وفكره، واللغة ومفرداتها، يومها كانت الأوطان، واللغة، والناس على شفا حفرة من الاندثار، واليوم في الدرك الأسفل منهُ. (لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية)
الحضارة بمفهومها العربي الضيق
التّحضّر الذي يدّعونه ليس التّزيّن بالماركات العالميّة، ولا امتلاك الأثاث الفخم، ليس – كما يعتقد الكثير – تصميم مكتبة بأجمل ديكور، ولا تحدّث لغتين أو ثلاث.
قد تكون خرّيج أفضل الجامعات، وبعض الكلمات عبء ثقيل على لسانك، مثل: “شكرًا، من فضلك، لو سمحت، آسف. “. فما الجدوى من علمك؟
قد تكون باحثًا اجتماعيًّا، وعديم أخلاق لا تكلّف نفسك عناء الوقوف في “الباص” ليجلس عجوز كبير. فأين هي إنسانيّتك؟
قد تكون طبيبًا، وعبدًا لسلطةِ المال، تأبى معالجة طفلة بريئة، قبل مَلْءِ جيبك، فأين هو ضميرك؟
الثَقافة والفنّ على شفير هاوية
اليوم عندما تسأل عن أحدهم، من ذا الذي يحدّثك عن ثقافته، أو معرفته وفكره؟ بل جُلّ ما يصفونه به هو جماله وماله، قيمة سيّارته، موقع بيته، و”ماركات” ثيابه.
نعيش في مجتمع تكاد تنعدم فيه الثقافة، اختُزِل الفن فيه ببعض “اليوتيوبرز” الذين يعرضون يوميّاتهم ومقالبهم وتفاهاتهم، ويحصدون من ذلك آلاف المتابعين، لقد استبدل شبابنا بالمسرح يوميّات المشاهير، ولو جمعنا هؤلاء الشّبّان لوجدنا أنّ معظمهم لم يكتشفوا ميولهم وشغفهم بعد، ذلك أنّ عقولهم تخضرمت واعتادت التّلقّي.
مساحة إعلانية
التّعليم عائق لا غاية – لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية
إنّ معظم النّاس متعلّمين، ولكن من ذا يتعلّم في شغف؟
أصبحت أقصى طموحات الشّباب إنهاء الدّراسة، وذلك للاعتماد على النّفس كلّيَّا والحصول على استقلال مادّيّ، ووظيفة محترمة، ومنصب مرموق.
أصبح التّعليم أمامهم عائقًا، لا يسعون إليه، بل يلعنونه كلّ يوم! رغم أنّ الصّغار والكبار يجيدون القراءة، إلّا أنّهم ليسوا بأفضل حالًا من الأمّيّين. فمن يقرأون الكتب قلّة قليلة، وهناك من يثير الشّفقة، وهم الفئة الرّائجة التي تشارك صورها على مواقع التّواصل الاجتماعيّ بصحبة كتاب وقهوة، وليتباهوا بكونهم قراء، مدّعي الثقافة، فإنّهم يقرأون اقتباسًا لسقراط من هنا، وآخر لدوستويفسكي من هناك، بدون أن يعرفوا من يكون كلٌّ منهما، فيظنّون أنّهم وصلوا إلى أعلى درجات العلم والثقافة.
لكنّهم لا يعلمون أنّ الإنسان مهما أخذ من العلم، يظلّ جاهلًا، في كثير من المجالات، ذلك أنّه لا يمكن لأيّ بشريّ أن يلمّ بعلوم الدّنيا كلها، وفي هذا السياق يقول أبو النَواس:
ثمّ نعود إلى الحضارة والتّحضّر!
السّطو الغربيّ وثقافته المقنّعة
وإذا أتينا الحضارات الغربية، فهي لم تقصّر في ادّعاء الثّقافة. ذاك الشّعب الذي يأكل بالشّوكة والسّكّين، ويحفظ حقوق الحيوان، يعرف “اتيكيت” الكلام والسّلام والطّعام. لا يغرّنّك ما وصلوا إليه من رقيّ سياسيّ واجتماعيّ، هذه الحضارة قد بُنِيَت بأبشع الأشكال، فإنّ قاعدتها العنصريّة والتّفرقة، ودعائمها استباحة القتل والوحشيّة، ولا سقف لسلطتها المطلقة. فإنّهم في تعطّش دائم للقوّة والاعتداء والخيانة. غذاؤهم الوحيد العنصريّة بين النّاس والأفكار والجنسيّات، ومن هنا تنشأ الكراهية.
إنّ هذه الحضارة التي تدّعي الثّقافة، هي التي تنمّي العنف في قلوب المواطنين، والمهاجرين بسبب تحريضها على العنصريّة.
وخير دليل على رجعيّتها، الحملات التي قامت بها كالتّبشير، وهي حملات مبتزّة للفقر والضّعف تدعو إلى نشر القوميّة والتّفرقة، بين المسلمين وغيرهم. والاستشراق، وهو دراسة البنية الثّقافية للشّرق، وترجمتها إلى لغاتهم، وتدريسها في جامعاتهم.
أمّا الاستعمار، فقد أظهر همجيّة الغرب الحقيقيّة في تعامله مع الآخر، حربًا أم سلمًا.
فمن يسوّغ استعمار لبنان وسوريا والجزائر وفلسطين، وغيرها الكثير من البلدان العربيّة؟
من يسوّغ تردّي أوضاع هذه البلدان السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.
بعد ذلك، بأيّ حقّ ندّعي أنّهم شعب مثقّف، بل ونتّبعهم أيضًا؟
خلاصة الكلام – لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية
إنّ القرن الحادي والعشرين، يفتقر إلى الحضارة الفعليّة، فلا الشّرق جدير بتسميته حضارة، ولا الغرب كذلك.
لذلك نحتاج بالفعل إلى عقل مجرّد من كل الشّوائب الشّرقيّة والغربيّة، عقل واعٍ يقود الشّباب نحو الثّقافة الفعليّة، والرّقيّ والتّحضّر الحقيقيّ.
ويبقى السؤال، من هو المسؤول الأوَّل عن الصّعود بوعي البشريّة جمعاء؟
هل الرّئاسة والحكومات هي المسؤولة، أو وسائط التّنشئة من عائلة، ومدرسة، وجامعات؟
فاطمة بلال الأحمد
لبنان
(لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
فاطمة بلال الأحمد من لبنان، تخرجت من الثانوية العامة في عام ٢٠٢١، وتتحضر لدخول كليّة الآداب، تهوى الأدب والتاريخ والفلسفة. اتجهت إلى الكتابة منذ عام.