(حسين فوزي) طبيب وأديب، بيولوجي وصحفي، رحّالـة وموسيقي، أكاديمي موسوعي من رواد النهضة الأدبية خلال القرن العشرين.
وُلد (حسين فوزي) (1900-1988م) في حي الحسين، وكان والده مهندسًا، وألحقه بكُتَّاب الشيخ “سليمان جاويش” في (باب الشعرية) بالقاهرة بين عامي (1905-1907م)، فحفظ ثلث القرآن الكريم. وتلقى تعليمه في مدارس القاهرة، وحصل على (الباكالوريا) من المدرسة السعيدية، وجاء ترتيبه الرابع على القطر، بينما كان الأول صديقه (محمد كامل حسين). والتحق بكلية الطب، وبرز فيها، وتخرج بعدما شارك في ثورة 1919م وهو طالب. وقضى عامين طبيبًا، واختار التخصص في الرمد، وعمل في مستشفى الرمد بالجيزة بعض الوقت. ثم تقدم لبعثة لدراسة بيولوجيا الأحياء المائية “الهيدروبيولوجيا” في فرنسا، ووقع عليه الاختيار.
في نوفمبر عام 1925م، ركب الباخرة (الجنرال متزنجيه) من ميناء الإسكندرية متوجهًا إلى (تولوز). وحصل على ليسانس العلوم من جامعة (السوربون)، ودبلوم الدراسات العليا للأحياء المائية من (جامعة تولوز)/فرنسا. وأتيحت له زيارات عدة لمتاحف علوم البحار، وتاريخ الحضارة، ودرس بيئات المياه العذبة والمالحة، وأعد بحوثًا ودراساتًا إضافية في هذا المجال.
وبعد عودته إلي مصر، عُيِّن مديرًا لإدارة بحوث مصايد الأسماك بالإسكندرية (1931-1941م)، واختير ليكون البيولوجي المصري ضمن الرحلة العلمية في بعثة (جون مري) علي السفينة “مباحث” التي طافت المحيط الهندي. وعندما تأسست جامعة (الإسكندرية)، كان أول عميد لكلية العلوم عام (1942م)، وأستاذًا في علم الحيوان، ثم مديرًا لها عام 1945م. ثم اهتم خلال الفترة ما بين (1948-1952م) بإنشاء قسم (علوم البحار) في كلية العلوم، بالاشتراك مع زميله الدكتور (عبد الفتاح محمد).
كما عُين وكيلًا لوزارة الثقافة، وساهم في إنشاء (البرنامج الثاني) للموسيقى، في (الراديو المصري/الإذاعة المصرية) في مايو 1957م. ووضع أسس أوركسترا القاهرة السيمفونى، ومسرح العرائس، وفرق الفنون الشعبية. وكان قد طالب بإنشاء (المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية) قبل تدشينه عام 1957م. وهو أول من نادى بتدشين (أكاديمية الفنون) في مصر، ثم عُين مديرًا لها ما بين (1965-1968). ثم انتخب رئيسًا للمجمع العلمي المصري عام (1968م).
بداياته الأدبية
نشر “حسين فوزي” أول قصة له في مجلة (السفور) عندما كان يتولى إصدارها الأخوان (محمد، ومحمود تيمور) ما بين (1919-1920م). ثم نـشر (ما بين 1919- 1924م) أكثر من خمس وعشرين قصة في مجلات (السفور)، و(الفجر)، وكاد يستمر في هذا الطريق لولا سفره إلى فرنسا. لذا فهو يعتبر واحدًا من رواد القصة القصيرة الذين نثروا بذورها في أعقاب الحرب الأولى. كما له عشرات المؤلفات الأدبية، والمقالات الصحفية، وبخاصة في مجال أدب الرحلات، والتأملات في التاريخ، منها: (سندباد عصري) (1938)، و(حديث السندباد القديم) (1943)، و(سندباد إلى الغرب) (1950)، و(الموسيقى السيمفونية) (1950)، و(سندباد مصري) (1961)، و(سندباد في رحلة الحياة) (1968)، و(بيتهوفن) (1971)، و(سندباد في سيارة) (1973)، و(سان جوست ملاك الإرهاق) (1975)، و(سندباد عصري يعود للهند) (1978)، و(تأملات في عصر الرينسانس) (1984). ومن مؤلفاته أيضًا: (رحلة تاريخية في البحار السبعة)، و(لندن تطفئ الأنوار)، و(هو وهي)، و(قلوب للبيع)، و(المرأة كتاب)، و(مشروع انتحار)، و(الأسكندرية في الخريف)، و(الموسيقى وحياتى)، و(روائع الموسيقى)، و(فى حرية الفكر والفن)، و(الثقافة الإنسانية)، وغيرها.
ويعتبر (فوزي) الرائد الأول لأدب الرحلات في مصر. وتمثل سلسلة كتب (السندباديات) تراثًا فكريًا ضخمًا يحمل -إلى جانبه العلمي والوصفي الدقيق- لمحات ذكية دقيقة من النظرة النقدية الفاحصة، والرؤية التأملية العميقة. كما إن رحلاته ليست في المكان فحسب، ولكنها في الزمان كذلك. ورحلاته في الزمان ليست تأريخًا بقدر ما هي طراز فريد من أدب الارتحال الذي يعنى بوضع الصورة الكاملة. وحينما سُئل عن (أدب الرحلات) الذي اشتهر به، قال:
ومن سيرته نجد تأثره بعلوم الغرب وثقافته، وبخاصة فرنسا التي يفرد لها فصولًا في كتابه (سندباد إلى الغرب)، بعضها عن الدولة وطرقها في تقبل الدمار الذي لحق بها أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم إعادة إحياء مقومات حضارتها: الفكر، والعلم، والأدب، والفن؛ وبعضها الآخر أكثر إنسانية، حين يرثي في فصل مؤثر زميليه في مختبر جامعة (السربون)، والذي قضى أحدهما نحبه في أولى رحلاته البحثية إلى آيسلنده. وفي معظم الفصول، نجد دلالات وإشارات إلى كُتَّاب وموسيقيين وأماكن قد يعرفها الشخص المطلع وقد لا يعرفها، وكذا عبارات كثيرة بالإنجليزية والألمانية واللاتينية.
ولا ينسى حبه الأثير للموسيقى، فيفرد لها كتبًا مثل (الموسيقى السيمفونية). وقد استغرق إعداده كتاب (بيتهوفن) اثني عشر عامًا (1969-1957). ونراه يختار للموسيقى الركن الأخير في كتابه (سندباد إلى الغرب)، وهو (ركن الموسيقيين) الذي يدعو من خلاله محترفي الموسيقى الشرقية لدراسة الموسيقى السيمفونية، كي لا تعتمد الموسيقى الشرقية على عامل واحد فقط هو (الطرب)، وإنما تلحق بالتطور الذي طال كل الفنون. وعلى صعيد المواهب الشخصية، فإنه من أمهر عازفي الكمان في الشرق، هذا مع كثرة هواياته، ودقة مهاراته.
وفي كتابه (تأملات في عصر الرينسانس)، أعرب (فوزي) عن اهتماماته من وراء مؤلفاته، فقال:
وقد وَصَفَ الدكتور “فوزي” نفسه بأنه (ليس مؤرخًا). وإن كان غير مجرد تمامًا من الإحساس بالتاريخ، فاعتمد في كتاباته على (الخلجات الروحية)، وعلى ما طالع من كُتب الأولين والآخرين في تاريخ بلاده، وعلى القليل الذي عاشه من ذلك التاريخ بلحمه ودمه وتفكيره. ويقول إن دوره أشبه ما يكون بدور (المخرج السينمائي) الذي يستخدم ما تضعه حرفة السينما وصناعتها بين يديه من ممكنات، ليجمع ذلك في صورة تتجلى في ذهنه أولًا، وقد ينجح في تنفيذ الصورة الذهنية وقد يخيب.
مساحة إعلانية
(حسين فوزي) كما عرفه، ورَثَاه مُعاصروه
يقول عنه الأديب (نجيب محفوظ):
ووصفه الأديب (ثروت أباظة):
ورثاه الكاتب الكبير الدكتور (يوسف إدريس) بقوله:
وحسين فوزي، وتوفيق الحكيم عملاقان معًا، قَلَّ أن يجود بهما الزمان في جيل واحد وفترة واحدة. ولم يكد ينقضي عام على وفاة الأول حتى راح الثاني. لأن حسين فوزي قد غادرنا فحالته الصحية في الفترة الأخيرة كانت هي التي تستحق أن يذرف لها الإنسان الدموع، ووحدته الرهيبة بعد وفاة قرينته كانت مأساة مروعة، وأَصْدُقُ إن قلت: سعيد لأنه استراح، وكنّ العملاق الهائل في استقراره المهيب الأخير. هذه دمعة من نوع خاص مصنوعة بمواد أخرى غير مواد ودموع الثكالى والمتباكين. دمعة صمت اذرفها من داخلي إلى داخلي. وأكذب إن قلت أني قد ذرفت الدموع حزنًا لوفاة عظيم من أساتذتنا لم يرث العظمة، وإنما أنشأها إنشاءً، ولم يبخل بها لأنه هو الذي خلقها، وهو الذي أعطاها، وظل يعطيها. حبذا لو المجال أوسع من دمعة -إذن لأرسلت الدموع مدرارًا- لكنها مفاجأة اللحظة، والخبر والصاعقة، فاعذروني ولتعذرني أيها الأستاذ.
(حسين فوزي خسارة لا تعوض، ولا يمكن أن تفي بحقه كلمات سريعة.. وأعتقد أن جيل الشباب مرجوٌ بأن يعكف على دراسة أعماله، فهو كاتب قصة قصيرة في بدء حياته، ثم عمل طبيبًا للعيون، فخبيرًا في الأحياء المائية. وألف لنا كتاب (سندباد إلى الشرق) حين كان في السفينة باحثًا في المحيط الهندي، واشتغل في تطوير التعليم العالي بجامعة الإسكندرية، وكان له فضل كبير في إنشائها. ثم لحسن الحظ، التحق بوزارة الثقافة وكيلًا لها، فوضع أسس عمل هذه الوزارة من الوجهة العلمية الدقيقة بإنشاء المعاهد الفنية العليا، وتشكيل الكونسرفتوار وبقية المعاهد الفنية. ولا ننسى فضله في التعريف بالموسيقى الكلاسيكية في برنامجه المعروف (شرح وتعليق) الذي يُذاع كل يوم جمعة. وبعد ذلك مؤلفاته العديدة عن الموسيقى والتاريخ وأهمها: (سندباد مصري) الذي استحدث فيه طريقة جديدة في كتابة التاريخ، بأن يبدأ من الحاضر ويرجع إلى الماضي. كان حسين فوزي يدعو إلى التفكير العلمي والوطنية المصرية ولم يتزحزح عن مبدئه قط) (حسين فوزي… والدعوة إلى التفكير العلمي. بقلم يحيى حقي، الأهرام بتاريخ 22-8-1988).
في الختام
يُعد (حسين فوزي) من الأدباء الرواد المجددين ومن الصحفيين الفحول. فهو متعدد العطاء في عدة مجالات، عُرِفَ طبيبًا، وعالمًا، وموسيقيًا، ورائدًا في أبحاث البحار، وسندبادًا جسورًا أمضى حياته يدرس ويشاهد ويلاحظ الحوادث من حوله. فهو (من الشخصيات النادرة التي تؤكد المعنى الكامل للإنسان المثقف في العصر الحديث. جمع إلى عقليته ودراسته العلمية المتخصصة ثقافة أديب وفنان تعمق في الآداب إلى ما هو أرفع من مستوى الاحتراف، وأعمق من مستوى الهواية)، وفق ما جاء في تقرير المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة) عند منحه جائزة الدولة التقديرية في الفنون (1966). كما حصل على الدكتوراه الفخرية في الفنون (1979). وتقديرًا من الجامعة الأمريكية بالقاهرة لدوره الثقافي، وعينته مستشارًا لها في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي.
د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.