الميتا شعرية في ديوان حتى مطلع الشعر للشاعرة سارة الزين

تشهد المرويات الشعرية عبر تاريخ الشعر العربي بأن الشاعر لم يستعمل شعره في صورة الناقل الذي يحمله تجربته فحسب، بل إن الشعر استقل بمكانته كأحد القضايا المطروحة عبر القصائد؛ فخرًا عبر تغني الشاعر بما يملكه من قدرة على جودة السبك وحسن المنطق وجدة الفكر، وتهكُّمًا عبر بيان نقائص الخصوم، وتنظيرًا عبر بيان أحكامه ومراتب جودته، وكأنهم أرادوا ضابطا لتعريف الشعر، وتبيان إرهاصات ما قبل الكتابة الشعرية، فرأوا أن يكون الشاعر متمكنا من أدواته، عارفا بدوافع الكتابة، متفاعلا معها على القدر الذي يمكنه من كشف تجليات من سبقوه، والإضافة لمن يتلونه، فهذا ما يرفعه ويضعه، ومن ذلك ما ذكره حسان بن ثابت قائلا:
وَإِنَّما الشِعرُ لُبُّ المَرءِ يَعرِضُهُ … عَلى المَجالِسِ إِن كَيساً وَإِن حُمُقا
وَإِنَّ أَشعَرَ بَيتٍ أَنتَ قائِلُهُ … بَيتٌ يُقالَ إِذا أَنشَدتَهُ صَدَقا (ديوان حتى مطلع الشعر)

ديوان حتى مطلع الشعر
الجزيرة نت

بل إن الشاعر العربي حاول وضع ضوابط لكل عناصر الكتابة الشعرية من حيث اللفظ والمعنى إلى غير ذلك، وكأنه يذهب إلى أن الشاعر بعد أن يدرك حقيقة الشعر، وأن يملك الدافع للكتابة، متصلا بميراث من سبق، ومحاولة الإضاقة لمن لحق، عليه أن يتعرف على قوانين إجراء الكتابة -إن جاز التعبير-، يقول البحتري:

حُزْنَ مُسْتعْمَلَ الكلام اختيارًا وتجنبنَ ظلمـةَ التعْقيدِ
ورَكبْنَ اللفظ القريبَ فأدركْن به غاية المُرادِ البعيدِ

ومنه قول صفي الدين الحلي:
ليس البلاغة معنى … فيه الكلام يطول
بل صوغ معنى كثير … يحويه لفظ قليل

ومنه ما قاله أحمد شوقي أيضا:

وَالشِعرُ ما لَم يَكُن ذِكرى وَعاطِفَةً … أَو حِكمَةً فَهوَ تَقطيعٌ وَأَوزانُ

لم يقف الشعراء قديما وحديثا عند وضع نظرياتهم حول انتقاء اللفظ، والبعد عن التعقيد، واستعمال اللفظ القريب عبر تحميله شحنات جدة التصوير، والعمل على التكثيف، وجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل، بجانب ما قد تتضمنه القصيدة من نضج فكري وعاطفي، بجانب الوزن والموسيقى، إلى غير ذلك مما يمثل إجراءات لعلمية الكتابة ذاتها، لكن جنحوا إلى إعطاء أبعاد أخرى للكتابة الشعرية، من ذلك ما ذكره نزار قباني بقوله:

الشعر ليس حماماتٍ نطيِّرها … فوق السماء ولا نايًا وريح صبا
لكنه غضبٌ طالت أظافره … ما أجبن الشعر إنْ لم يركبِ الغضبا

تلا ذلك بيان العلاقات بين ما يكتبه الشاعر وغيره من الشعراء سواء معاصريه أو سابقيه، مما قد يمثل شكلا من أشكال البناء أو الهدم وإعادة تركيب، وفي ذلك يقول المتنبي:

وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي … إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً

ويقول في ذات القصيدة:

وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني … أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

عمد الشعراء بعد ذلك إلى توضيح مآلات تطبيق إجراءات الكتابة السالفة؛ فمنهم من سيئول مصيره للخلود، ومنهم من سيتلاشى مع عوامل التعرية، مما جعل الحطيئة يقول لمن أراد امتطاء صهوة الكتابة الشعرية:

فَالشِعرُ صَعبٌ وَطَويلٌ سُلَّمُه
إِذا اِرتَقى فيهِ الَّذي لا يَعلَمُه
زَلَّت بِهِ إِلى الحَضيضِ قَدَمُه

ليأتي دعبل الخزاعي مؤكدا:

يَموتُ رَديءُ الشِعرِ مِن قَبلِ أَهلِهِ … وَجَيِّدُهُ يَبقى وَإِن ماتَ قائِلُه

مما سبق يتضح أن شعراء عصور العربية كافة حملوا الشعر قضية ينَظِّرون لها ويضبطونها عبر الشعر ذاته، فالشاعر – كما يصف عبد اللطيف الواري في دراسته الميتا شعري بوصفه خطابا – يتولى “بلغته الواصفة الخاصة الكلام عن الشعر وما يتعلق بمفهوماته، وحدوده، ولغته، ورؤيته للعالم، ومصادر إلهامه، ومجموع علاقته بالذات والآخر، التراث والحداثة، الوطن والمنفى، الحقيقة والمجاز،…إلخ، إنه الشعر على الشعر”، من هنا أصبح كون موضوع القصيدة محاولة للتنظير للشعر بالشعر يعرف الآن بالـ “ميتا شعرية”.

لفظ ميتا Meta يوناني الأصل، وهو بادئة تعني “بعد/ تجاوز” After/ Beyondوفي التسميات الحديثة يمكن أيضا أن تكون بمعنى الفوقية أو المرجع الذاتي Self-referential بمعنى “نظرية عن نظرية”، من هنا عمدت هدى فخر الدين إلى القول بأن الميتا شعرية تمثل “الكلام عن الشعر ضمن إطار الشعر نفسه، الشعر على الشعر، أو القصيدة على القصيدة”.

تجلت صورة الميتا شعرية في ديوان حتى مطلع الشعر للشاعرة سارة الزين بدءًا من عتباته الأولى، وصولا لأدق تفاصيله، مجرد النظر إلى العنوان “حتى مطلع الشعر” يضع المتلقي أمام فرضية مفادها أن الشعر سيكون محورا رئيسا للديوان، وأن ثمة علاقة بالموروث ستتجلى عبر مسايرة تراكيبه فالعلاقة بين “حتى مطلع الفجر” وعنوان الديوان لا تحتاج كثير تأويل.

لم يكن هذا وحده ما يدفع للتصور بمحورية قضية الشعر في الديوان فمطالعة عناوين القصائد تمنح تلك الفرضية من الجلاء ما يكفي لثبوتها يقينا “عناقيد شعر، فضاء النفري، أرملة الخليل، انزياح بارد، لأن القصيدة أنثى، قيامات لحرف مؤجل، الشعر الحديث، سكرة الشعر، ابن المجاز، أنثى المجاز، إرث المتنبي، والشعر عجل السامري”، من هنا كان المدخل لتصور انطباق الميتا شعرية في هذا الديوان.

يمكن تناول فرضية الميتا شعرية في ديوان حتى مطلع الشعر عبر العناصر التالية:

1. حول الشعر والشاعر.
2. إجراءات عملية الكتابة.
3. علاقات الهدم والبناء.
4. مآلات الشعر.

ديوان حتى مطلع الشعر

إقرأ أيضاً:  الآثار المصرية في الأدب العربي

مساحة إعلانية


1. حول الشعر والشاعر:

للشعر مفاهيم متعددة لدى سارة الزين في ديوانها، فهي لا تنظر له النظرة المجردة التي تتوارثها الأطر النظرية، بل تصبغ عليه من المجازات ما يمنحه أبعادا تتعلق بالأنثى والوطن والأرض، في قصيدتها لأن القصيدة أنثى تقول:

أنا ابنة الشمس والأرض التي ولدت … من خصرها لغة فوق الكنايات
أنا القتيلة في التأويل يعرفني … رجع الحداء بأسراب المجازات
أبلل الفكرة العذراء أغسلها … من التصحر من بعد المخاضات
صوتي وحرفي هلاك في اعوجاجهما … وما استقاموا سوى فوق انحناءاتي

الشاعرة هنا تضع مفهومها حول شعرها وذاتها الشاعرة، فهي القصيدة ابنة الشمس والأرض أي أن القصيدة عندها لا بد أن تكون ابنة للطبيعة/ أنثى (مصدر الوجود) تلد لغة تسمو فوق الكنايات/ الخيالات المطروقة سلفا، منفتحة في التأويل الذي قد يجنح به التصوير درجة أن الحياة موت والموت حياة، وصوت شعري له من علامات الخلود ما يجعله يتردد في الحداء، وتحمله القصائد اللاحقة في مجازاتها كونها أما ومصدرا للانزياحات، تسعى للجدة حد بكارة الأفكار، ونحو تجدد ميلاد القصيدة مهما تعددت مخاضاتها، وكأنها تستدعي فكرة الفينيق الذي كلما أخلق ألقى نفسه في النار ليعود جديدا، فتتحد عناصر الماء والهواء والأرض والنار لتتحقق الطبيعة متجسدة في القصيدة المصدر الأول للكتابة لدى الشاعرة/ الأنثى/ المصدر/ الأم، ثم ترمي إلى ملمح مهم في التجربة الشعرية وهي أنه مهما كان مآل القصيدة فإنها تخلقها بقياساتها الخاصة التي لا تليق سوى بها مهما تعددت حولها وجهات النظر.
وفي محاولة منها لوضع تعريفها الخاص بالشعر تقول:

يموت بالشعر كل الشعر إن كثرت … فيه الغواية أو قلت مراميه
فالشعر مقصد رواد السماء إذا … ما حلقوا فيه صاروا من معانيه

إذن الشاعرة ترى أن الشعر الذي لا يحمل هدفا هو شعر ميت قبل ولادته، ولكي يحمل هذا الهدف لا بد أن يتخلص من الغواية لما لا طائل وراءه، وأن يتصل بالسماء ربما تحليقا في فضاءات الكتابة، وربما قصدت اتشاحه بصبغة أخلاقية، وظني أن الأمر الثاني أقرب حيث ثنائية الغواية والاتصال بالسماء.
تقول أيضا “لأن القصيدة أنثى/ تصفف وجه المسافة من دون لبس/ تقلم ثقب الزمان بمبضع من عاف كل الهزائم/ …/ تسرح حشدا من الأغنيات/ وتترك في الخد ثورة خال/ وعزفا شهيا تضيف عليه خروجا من اللحن/ يخدش سمع المسافة/ كي ينقذ الموت من ملك الموت/ من سلطة الريح/ من نعس الفكرة المشتهاة/ ومن صدأ الوقت/ …/ تباغت صبح المقيمين عند رصيف التأمل/ دون حراك كأي مجاز/ فيمعن طعنا بصدر الحناجر/ يثقل طير الكنايات رجما/ لينفخ في الصمت عزف الرياح/ …/ ستفضح عري الحياد/ وتقلع من جوف هذي المدينة جذع التثاؤب بعد السبات/ تحرر عين الشارع من رمد الشك في الأغنيات/ وتنثر شعرا على حاجب الوطن المستباح”، فالشعر هو القصيدة الأنثى وتصور الأنثى هنا لا يقف عند دلالاته البيولوجية فلم يتمثل الجسد إلا في إلماحات الخد والخال، وإنما بدلالات يمكن أن تكون جندرية تعبر عن طبيعة دورها الاجتماعي فطالما كانت انبثاقا لمعاني الرعاية والاهتمام والحماية والتضحية.

فالقصيدة الأنثى هي من تقوم بكل ذلك فهي (تصفف) وجه المسافة، و(تقلم) ثقب الزمان، و(تسرِّح) حشد الأغنيات، وتعرف ألحانا (شهية)، وتقف في وجه سلطة الموت والريح باعتبارها مصدر الحياة، وهي التي تنبع منها ثورة (الخد والخال)، وتباغت هؤلاء الراقدين دون حراك كما تفعل الأمهات كل صباح، وحين تباغتهم تتخلى المدينة عن حيادها وسباتها؛ لتوقظ جفن الوطن، لتتحول القصيدة الأنثى أيقونة للثورة أو رصاصة “تفجر في الحر ألف سلاح”؛ فمفهوم الشعر هنا تلبَّس بإضفاء صفة الأنوثة، ثم معالجة ما يتطلبه هذا الوصف عبر إمداده بخصائص وظيفية تدعم تصوره، ليمتد تنظيرها لمفهوم الشعر لديها ولا يتوقف عند حدوده التي بينها قدامة بن جعفر في قوله ” قول موزون مقفى يدل على معنى”، فالشعر “كظاهرة تعبيرية في حياة الإنسان يبدأ بسيطا –كغيره – ثم يتعقد تدريجيا” مما ساق إلى وصف أدونيس أبا تمام بقوله “شعره اكتشاف للأشباه والنظائر بين الإنسان وصفاته والعالم وصفاته”.
تعطي الشاعرة مفهوما آخر للشعر عبر قصيدتها صومعة الرجال، لعلها في مقابلة للقصيدة الأنثى، تقول:

للشعر أرواح تطوف وتخشع … وملائك عند التجلي ركع
وسجينة خلف الحروف هلاكها … ثملٌ تأمُّلُها يريك فتخدع
للشعر صومعةُ الرجال وحانة … تسقيك من كأس الضياع وتترع
للشعر أنثى تشتي إغواءه … يرنو لها متشوقا تتمنع
للشعر قافلة وحسنك صهوة … تعلو على ركب العلا لا تركع
للشعر مملكة وقلبك عرشه … ملكا على صدر الهوى تتربع

لم يخل الشعر يوما من ادعاء أن قوى عليا تحركه وتباركه، لكنها اتجهت دائما لشياطين القريض وجنه، لكن الشاعرة هنا تنسبه للأرواح الطوافة الخاشعة للملائك الركع، كما تحدد مصدر إلهامه في صورة الملهمة السراب تلك المرأة/ القصيدة المزاجية التي يخالها الشاعر سجينة حرفه لكنها تغويه وتتمنع، ثم تشير إلى أن الرجال يعدون الشعر صومعتهم الخاصة درجة تعالي بعض الأصوات بانحياز تاريخ الشعر العربي للذكورة، فالشاعرة هنا لم تخرج عن المألوف في تلك الرؤية وهي تقر أبا تمام في قوله “لم ينته إلينا ولا ديوان واحد إلا المقطعات التي جمعت للخنساء، … ولعل السبب في ذلك أن الناس لم يكونوا يحفلون بشعر النساء، إذ كان شعر الرجال قد ملأ الدنيا وذهب المذاهب كلها في فنون الكلام وبلاغته، وإنما كان يجمع بعض الرواة والعلماء أشياء من ذلك” يقصد شعر النساء، ولعلها لم تغفل ما تضفيه كلمة صومعة من إجلال فأعقبتها بكلمة حانة، فالشعر يتملك هاتين ويتأرجح بينهما، فما بين صوفية الدرويش/ الشاعر واعتزاله للتعبد بمحراب قصيدته، أو انغماسه في سكره بها، حدان يسعى بينهما الشاعر.

يسوق هذا إلى القراءة ضمنا أن القصيدة حين تتلبس بالأنوثة فإنها تصنع لنفسها آفاقا مغايرة عن السائد، أما حين تنسج في إطار غير أنثوى فإنها تنساق للمألوف، تقول “إنني امرأة مجاز/ فكرة أخرى لميلاد حديث الشعر/ أرملة الخليل المتعب المنسي في جب الحداثة والقصيدة والخيال”، ففي مفهومها عن الشعر أنه الأنثى التي هي رمز الميلاد؛ ميلاد المجاز/ الفكرة/ الشعر الحديث، وكذلك فالشعر هو الأرمل التي حملت إرث الخليل بن أحمد الذي خرج بعض الشعراء على سطان عروضه، وهي هنا تطرح قضية بالغة الأهمية حول ماهية ما هو حديث، وما هو قديم، ونقاط التقائهما، وجذوة خلافهما، وربما تعبر بذلك عن جيل الشعراء الذين يحاولون أن يقدموا القصيدة الخليلة برونق حداثي يضاهي النثر في تحرره من قيود القصيدة.

ديوان حتى مطلع الشعر

إقرأ أيضاً:  رواية السيرة الذاتية بين استيعاب الواقع والتعبير عن التأزمات الذاتية

مساحة إعلانية


2. إجراءات عملية الكتابة: ديوان حتى مطلع الشعر

مما هو معروف أن لكل شاعر إجراءاته الخاصة تجاه القصيدة والتي يمارسها حال الكتابة، وأشير سلفا إلى محاولة الشعراء قديما وحديثا إلى بيان قواعدهم الإجرائية التي يتخذونها للوصول لبغيتهم في الكتابة ووصول القصيدة إلى أفضل ما يمكن من اهتمام باللفظ والمعنى وغير ذلك مما سبقت الإشارة إليه.
أول هذه الإجراءات تكمن في وجود الدافع وراء الكتابة وكما يشير علي جعفر العلاق إلى أنه “تختلف دوافع الشعراء اختلافهم في الذوات والانتماءات، فالدافع الشعريّ لا يأتي مبرّأً من الغرض، لا يأتي خالصا لوجه الجمال دائما؛ فقد يكتب شاعر ما قصيدته تماهيا مع مكان أو قضية، وقد يكتبها وعيناه على مكافأة مجزية، وقد تكون القصيدة تضرّعا إلى جمال إنسانيّ خالص، وربما تسجل القصيدة طموح الشاعر إلى وجاهة اجتماعية أو شهرة مبتغاة”، وعبر قصائد الديوان تعددت الدوافع المفضية إلى الكتابة، ومنها قولها:

يا صحوة الحرف من جوع النهايات … الآن أبصر في قمحي نبوءاتي/…
مبلولة بالشتات المر أسئلتي … وغيمتي ابتلعت كل احتمالاتي/…

هنا صحوة الحرف كانت نتيجة لمحاولة النجاة من النهايات القديمة، والارتحال نحو النبوءات الحديثة، ورحلة البحث عن إجابات للأسئلة التي يفيض بها رأس الشاعرة المفتوح على كافة الاحتمالات، ولطالما كانت الحيرة والبحث ومحاولة الخروج من حالات الركود واستشراف النبوءات دافعا يخلقه الشعراء للكتابة، فالشاعرة تؤمن بضرورة وجود دافع للكتابة فخلقته من أسئلتها.

وفي قصيدتها ليلة عيد تقول “سيأتي/ وتصمت لا تكمل الشعر/ في قلبها جنة من نبيذ وخوف/ وبين يديها يثور المجاز”، الدافع للكتابة هنا هو مجيء المنتظر، هذا المجيء المكسو بالقلق والخوف والاشتهاء، فحين يحط رحاله تصمت، لكن الشعر يأبى إلا أن يثور بين يديها ليخلق قصيدة، لعله يجيزها ويشترك في صياغتها، فالدافع للكتابة هنا متعلق بفعل العودة.

الإجراء الثاني يتعلق بكيفية الكتابة ذاتها، كيف تكتب الشاعرة وترى أن هذا هو النموذج الأسمى لتصميم حلة القصيدة، ليستشف المتلقي قواعدها الصارمة أو حتى المرنة في إنتاج قصيدتها، والإجراءات التي تتخذها حيال ذلك، وكما يقول عباس بيضون “للشعر بين فنون الكتابة ميزات أقربها أنه رغم كل الكلام عن الذاتية لا شخصي، أي أن الشاعر لا يعرف كيف يضع نفسه فيه ليصح ذلك الادعاء أنه قال نفسه”؛ لذا فإن القواعد الإجرائية للكتابة التي اتخذتها الشاعرة مثالا أعلى لكتابتها ربما هي نسق متفرد لها، ولكنها عملت جاهدة على إعادة تصديره للمشهد الشعري، تقول في قصيدتها عناقيد شعر “سأمضي بكلي/ أعري خيالي أمام الوجود/ وأنحر قربى لكعبة حزني/ قصائد لما تلد بعد من شفتي انزياحا عتيقا يطوف على جنة من كمد/ …/ أحدق بالشعر/ بيني وبين المجاز مساحة أنثى/ تهيئ للفكرة المشتهاة جناحا ومتكأ من سديم وموت/ تعيش التفاصيل من دون ورد/ …/ وكنت إذا ما اعترتني القصيدة زملت خوفي/ ورحت أطارد وحش السؤال/ أمد جنوني نحو عناقيد شعري/ وأفرش كل حروف الجسد”، إذن فإجراءات الكتابة الأولى لخصتها الشاعرة في هذه القصيدة وأكدت عليها عبر قصائد أخرى ويمكن تفصيل هذه الإجراءات في:

أ‌. كلية الاتجاه نحو الكتابة: عبر تأمل ما سبق من الكتابات الشعرية، وترك المكرور.

وأكدت على ذلك في عدة مواطن منها:

– أهشم بالصمت المكثف جيش طين من سلالة بدعة الشعراء.
– أختفي وحدي وأترك خلفي الأبيات سكرى.
– وأنا كسيدة الفصول أقلم الأشعار في قصب المزاج الموسمي.
– ويخيفني الشعراء جدا كلما غرسوا النفاق مع القصائد غرسا
لا تقترب منهم أوان تأبلسوا … كي لا تنال من التقرب رجسا

ب‌. جدة الخيال: محاولة الصورة البكر والتخلص مما لا يلد انزياحا/ رمزا.
وأكدت على ذلك بين طيات الديوان فتقول:

– أنفث ما تبقى من حروفي الشقر كي يبقى الخيال الأسمر الغجري أشهى من نحول الصورة البكر.
– تصرخ فكرتي الشمطاء في رأسي طويلا ثم تبتدع انزياحا.
– وبين يديها يثور المجاز.
– صوتي ويشبه في الترميز أغنية.
– هناك تتحد المباني بالمعاني عند تأويل جديد.
– يحلق في طعم المجاز مجاوزا أديم الأغاني والخيال هروب.
– ترتقب المجاز مدللا في راحتيك ولا تمل من انزياحات العجب.

ت‌. خلق مساحة خاصة للأنثى.
وقد احتل ذلك الإجراء مساحات شاسعة في الديوان تقول:

– إنني امرأة مجاز فكرة أخرى لميلاد حديث الشعر.
– لأن القصيدة أنثى.
– كان مني… يرشف النص، الحواشي، كل أفكاري، اقتباسي، ما توارى من جناسي، والخريف المشتهى في قعر بني.
– للشعر أنثى تشتهي إغواءه … يرنو لها متشوقا تتمنع
– كأي أنثى استفاق اللون في دمها … فأشعلت لغة في الماء والطين
– لا تسقطي الآن مدي الشال والعنقا … سيعبر الشعر من جنبيك مؤتلقا
جيد القصيدة ينمو طوع فاتنة … تعبد الحرف من أحداقها طرقا/ ..
وبالقطوف على خدين لاؤهما … ترقص الحرف أو تجتاحه أرقا
– أنثى من الضوءلا تمشي على القصب … تهذب الماء بالترميز والحجب/…
شقية الطبع والتأويل يسكنها … دفء المجازات حتى سكرة الشهب/…
ومجدلية وحي كلما نطقت … يحدق الشعر من شباكها العنبي

ث‌. البحث عن التفاصيل والشك وطرح الأسئلة.

وأكدته بقولها:

– هذا بيان الشك شعري.
– ستروي تفاصيلها شهرزاد بليلة عيد.
– يا ابن المجاز أراجيح الهوى تعبت … من الدوائر فامنح بعضها أفقا
– خمر بكأسك تعلو فيه ضوضاء … ومذهب الشك بعد الكأس إغواء

ج‌. جنون الكتابة والولوج لعوالم الخطوط الحمراء.

– بعض الجنون المحض أشهى وثبة للحرف.
– هنا فضاء النفري هنا جناح للجنون.
– أشهى القصائد ما جن الخيال بها … هذا اشتهائي وذا رقص المجانين
ثم حين يتم تنفيذ كافة تلك الإجراءات تشرع في الكتابة.

ديوان حتى مطلع الشعر

إقرأ أيضاً:  قراءة في كتاب - رواية "يسمعون حسيسها" للدكتور أيمن العتوم

مساحة إعلانية


3. علاقات الهدم والبناء:

منذ إهداء الديوان والشاعرة تعمد إلى عملية هدم لبعض العلاقات وبناء علاقات أخرى، أقصد هنا ميلها لنقض ما لا تراه ملائما لوجوده في شعرها، وبناء ما يجب توافره فيه، ولم أقصد هنا ورود لفظي الهدم والبناء بل معناهما في العلاقات، وربما ما سبق من إجراءاتها يمكن الادعاء بكونه جوهر بنائها للقصيدة، أما ما عمدت لهدمه فمنه قولها:

– هنا فضاء النفري هنا جناح للجنون وبعض تحليق سما/…
وهناك تتحد المعاني بالمباني عند تأويل لتجديد نما/…
نام الخليل على سبات عروضه والصحوة الكبرى ستأتي بعدما…

فالشاعرة تريد أن تضع إطارا من ضمن إجراءاتها يتعلق باستثمار فضاءات الصوفية الفلسفية، واستعمال ذلك في تجديد الشعر، وعدم الارتكان إلى التقطيع والوزن، وتحقيق الصحوة للانتقال من مجرد النظم إلى تحليق الشعر في الفضاءات؛ فالفضاء “لا يرى بالعين وحسب، وإنما هو وسط محمل بالقيم التي لا شأن لها بذكر الأشكال والألوان” على حد تعبير عبد الرحيم حزل في كتابه الفضاء الروائي، ولأن التجربة الصوفية – كما أشار عطاء الله كريبع – “تتخذ من الذوق والحدس والرياضـة وسـيلتها إلـى الوصـول والمعرفة وهي بذلك تلغي مواصفات العالم الحسي ولا ترى في الفضاءات الحسية سوى مجرد وهم وظل لحقائق أسمى على أكثر تقدير”، لذا ترى الشاعرة أنه على الشاعر ألا يعتمد على الشكل الموزون المقفى ليظن أنه يكتب شعرا، وإنما عليه أن يستثمر حدسه وأن يمرن ذائقته ورؤيته للوصول إلى ما خلف ما يرى من الأشياء؛ ليستجلي حقيقتها، ولا يوهمه الشكل الظاهر المحسوس السطحي؛ بل عليه البحث عن الحقيقة الأسمى للشعر، والبحث عن جلاء الرمز، وهو الأمر الذي حاولته الشاعرة تطبيقا ودعوة عبر ديوانها كما سبق بيانه.
في قصيدة لا تقترب منهم تنقض الشاعرة عالم الشعراء المتسربلين بالعتمة، المذبذبين على حد قولها، في محاولة منها لوضع علامات تحذير للشعراء كي لا يخطئوا طريق شعرهم الحق، وألا تتجه القصيدة إلى غير موضعها، وهذا الاتجاه الأخلاقي في الكتابة أكدته الشاعرة عبر قصائدها بشكل مستمر، تقول:

متسربلون بعتمهم إيقاعهم صوت هزيل لا يغادر جرسا/…
أوراقهم كمقاعد التأويل يابسة تزيد من التملق يبسا
ويخيفني الشعراء جدا كلما غرسوا النفاق مع القصائد غرسا
لا تقترب منهم أوان تأبلسوا … كي لا تنال من التقرب رجسا

تدعو الشاعرة لوضع هذا الإطار الأخلاقي للقصيدة عبر تخلصها من صفات التملق، والنفاق، والأبلسة، واستثمرت في وصف ذلك لفظ “الرجس”، ومعاني الرجس التي وردت متصلة باستعمالاتها الدينية تبين مدى تشديد الشاعرة على وضع هذا الإطار، فمن معانيه النجس، والعمل القبيح، والخبث، والشر والضلال، ولعل هذا التعبير كان نتاجا لرصد بعض المشاهد الشعرية التي دعت الشاعرة إلى تبنيها هذا الرأي.
في قصيدتها والشعر عجل السامري تقول:

سيدعي العتم أن الضوء لعبته … وأن بسطة كف منه تحييه
ويسجد الناس لليل الجليل إذا … ما أمسك الصبح من أدنى تدانيه
وخلف رقصة وعي نوتة نشزت … فقيل هذي التي فوق التشابيه
وقيل إن نشاز الحرف أعمقه … ويدعي فيه أن المنتهى فيه
يقدس البعض عجل السامري كما … يكذب البعض آيا من نبييه

تنقض الشاعرة هنا أيضا فكرة المكانة الوهمية التي يعمل بعض الشعراء على الوصول إليها مهما يكلفهم ذلك، عبر شيوع المجاملات، وتبادل المنافع، وطرح الشعر الجيد جانبا، وتلميع أرباب السطوة والحظوة الممسكين بتلابيب الحياة الثقافية العربية، درجة ادعاء أن النشاز عمق وارتقاء فوق المستوى المعهود، وتقديس تلك الكتابات وشخوص شعرائها، وترك أصحاب الموهبة الحقيقية جانبا غبنا وجورا، فهي في علاقة هدم لكل تلك الصروح الواهية عبر نقدها نقدا لاذعا يضعها في صورتها وحجمها الطبيعيين.

ديوان حتى مطلع الشعر

إقرأ أيضاً:  برك وبحيرات البحتري، ولامارتين

مساحة إعلانية


4. مآلات الشعر: ديوان حتى مطلع الشعر

لطالما انشغل الشعراء بمآلات شعرهم وقصائدهم، وكانت فكرة الخلود واحدة من غاياتهم التي يسعون لتحقيقها، وربما اليأس تسلل لنفس الشاعر حتى يظن أنه في الكون وحده لا يأبه به أحد؛ فلفظ شعره وتمنى لو لم يمسك قلما ولم ينبس حرفا قط، والشاعرة سارة الزين شأنها شأن الشعراء في التأرجح بين الضفتين، تقول في قصيدتها كذبتي الأولى “سأموت في متن القصائد لا الحواشي/ شاعرا ما زال يقضم حرفه/ وغدا سينكره الكتاب”، وتقول في قصيدة لهاث الموت “أقول والآن أكملت الطواف له … سيكتب الشعر أن الشعر قد رفعك”، بين هذين الحدين الموغلين في التناقض يقع الشعراء فحين يرضون عن شعرهم وحين يحقق مأربهم فهو بوابة الخلود، وحين ينأى بجنبه قليلا فهو كاتب الموت وعميله، في الحالة الأولى تتشبث القصيدة بحقها في أن تزفر آخر أنفاسها وهي متعلقة بمتنها وفي أوج تحقيق غايتها لا في حاشيتها ملقاة في الهوامش، لكنها رغم ذلك ربما تطوى بين صفحات الكتاب ولا يلتفت لها أحد، وفي الحالة الثانية تستلهم روح المسيح فمن ظن أنه انتهى سيعرف خطأه حين يدرك أن الشعراء لا يموتون بل يرفعون ويظل ذكرهم باقيا عبر فضاءات القصيدة.

بين هذه وتلك شغلت الشاعرة فكرة المآلات فتطرقت إليها عدة مرات، تقول:

– وطفل شعري منبوذ بلفته … لا يم يحمل أشباه الولادات.
– أعشو إلى النيران تلتهم القصيدة ثم تضحك لي وتزهو.
– يموت بالشعر كل الشعر إن كثرت فيه الغواية أو قلت مراميه.
– وأنا المراهقة القديمة أحرفي “ولادة” ودم القصائد حدي.

ختاما، لقد تجلى عبر تلك القراءة رغبة الشاعرة في تصدير رؤيتها عبر تحديد ملامح وعيها بدربها الشعري، فهي تعرف ماهية الشعر بالنسبة لها، وتشعر بإرهاصات الكتابة، وتبحث عن الدافع ومصدر الإلهام، ولا تخفي مخاوفها، وتعكس قوانينها الخاصة لعملية الكتابة، وتعيد تكوين علاقاتها بالذات والعالم، وترنو لمآلات القصيدة بعين الناقد الفاحص، وهذا هو ما تخلقه الميتا شعرية إذ تجعل من الشاعر منظرا لقضايا الشعر، ناقدا للإبداع الشعري، يرصد كل ما يحيط بالشعر عبر الشعر، محاولا تكوين قصيدته التي تبحث عن دورها وموقعها من المشهد الشعري.

د. سيد عبد الرازق

(ديوان حتى مطلع الشعر)

إقرأ أيضاً:  الفرانكوفونيون العرب: أدبهم عربي أم غربي؟


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

سبب وصول تطبيق Threads لملايين المستخدمين فى ايام معدودة

الجمعة أغسطس 4 , 2023
تمت قراءته: 2٬095 سبب وصول تطبيق threads لملايين المستخدمين فى ايام معدوده فى مقابل انخفاض عدد مستخدمين تطبيق twitter عشان نقدر نعرف السبب وراء وصول تطبيق threads لملايين المستخدمين فى ايام معدوده فى مقابل انخفاض عدد مستخدمين تطبيق twitter ده هيضطرنا نرجع للفتره الذهبيه اللى ازدهرت فيها مواقع السوشيال ميديا […]
تطبيق Threads

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة