غياب العدالة في رواية صياد الملائكة

يتأثر الإنسان بالبيئة المحيطة به، فهو يؤثر ويتأثر بما يدور حوله وفي فلكه. وعليه أن يقرر إما أن يتماشى مع متطلبات المجتمع الذي يعيش فيه أو ينفر منه ليحلق بعيدًا في مدار آخر يتوافق مع رؤيته الخاصة. ولا يمكن أن نغفل أو نتغافل عن أن أسلوب التربية منذ الصغر هو الأساس الذي تُبنى عليه شخصية الإنسان في الكبر، مهما قابل من تحديات وعقبات أثناء بحثه عن الطريق المناسب له. هذا بالإضافة إلى أن الأحداث سواء كانت مشاجرات أو خلافات صبيانية تتمركز في عمق الشخصية، وتنعكس على أفعالها وردود أفعالها عند مواجهة أحداث شبيهة لها في الكبر. ومن هنا تبدأ رحلة حنا، الإنسان البسيط الإنطوائى في رواية صياد الملائكة[1]رواية صياد الملائكة، الكاتب هدرا جرجس، دار الربيع العربي، مصر، الطبعة الثانية 2014.

رواية صياد الملائكة

الإنطلاق الحر والشخصية الضعيفة – رواية صياد الملائكة

تبرز الرواية نقاط ضعف شخصية حنا في فترات زمنية مختلفة، وهذا عن طريق أصدقاءه في فترات الطفولة والشباب. نلاحظ أن شخصية حسين ومنصور يتشابهان في التمرد والجرأة دون تردد أو تفكير طويل على عكس حنا الذي يفضل دور المتفرج السلبي دون أن يشترك في الأحداث، ويرفض الحديث مع الآخرين وتكوين علاقات إجتماعية. وعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه حسين جراء انطلاقه- ألا وهو بتر ساقيه من فوق الركبة- إلا أن حنا كان منبهر بمغامراته التي كان يحكيها له على الرغم من الشكوك المحيطة بها. علاوة على عدم استسلام حسين لهذا القدر حيث يهوى صيد السمك، ولكن بسبب كبر سن والدته وعدم قدرتها على الذهاب به إلى الكورنيش أدى ذلك لنشوب الخلافات بينهما لدرجة أدت إلى تكسير الفازة أو قذف حسين لها بالسباب. في حين إذا وجدت والدته فرصة أن يذهب به حنا- عقب عودته من عمله- إلى الكورنيس، لن تتردد للحظات في دفعه بالكرسى المتحرك إليه. ومن خلال الحديث بين حسين وحنا نسكتشف محاولاته للتغلب على عجزه إما بالضحك لدرجة الصراخ أو الشتائم. من ناحية أخرى، يمثل منصور الجانب الخفى داخل حنا، ألا وهي حياة المجون والعربدة، فهو يدخن الحشيش. يحاول مساعدة حنا للخروج من السجن الذي يتقوقع بداخله، وذلك بالإتفاق معه على صفقة مربحة للطرفين. ينجح منصور في إقناع صفية في الذهاب إلى شقة حنا وعقب الإنتهاء يعود حنا إلى عمله بينما يحتل هو الشقة مع صفية، وبذلك يتوفر المكان والمتعة لجميع الأطراف. لا يضع منصور العواقب المخيمة في الحسبان، ونتيجة لهذا تم تدمير حنا نفسيًا مما أثر علي قواه العقلية.

الفقر يسيطر على المشهد

يتضح من خلال السرد أن الجميع يحسد حنا الضعيف الإنطوائى سواء على حصوله على عمل كـ “بار مان” على باخرة سياحية بالرغم من عدم كفاءته لدرجة جعلت المتر عاطف يتذمر من إختياره أو الشقة المطلة على النيل التي يسكن فيها وحده لمدة أسبوع بعد غياب شهرين بسبب العمل. كما يتضح إثارة الشكوك حوله بسبب رفضه للزواج، ربما لعلة ما أو عزوفه عن النساء، ولكن يتضح أنه لا يرى أى دافع للزواج. من ناحية أخرى، ما يجعل صفية تبيع نفسها هو العوز والحاجة حيث تعيش في عشة مع أهلها كما لا يستطيع شاب مثل منصور الزواج بسبب عدم قدرته المادية على توفير متطلبات الزواج. ويشمل الراوى العليم المدينة بأكملها التي يعيش سكانها في حالة من البطالة ويعانوا من ضعف فرص العمل مما يجعلهم يلجأون إلى مراقبة الآخرين لقتل الوقت والتسلية.

الزرع والحصد – رواية صياد الملائكة

يتم زرع المعلومات خلال الرواية لنصل إلى النهاية الغير متوقعة بطريقة سلسلة ومشوقة. ففى البداية، نخوض مع الرواى العليم رحلة استكشاف شخصية حنا الإنطوائية، والذي يفضل الإنعزال والوحدة ويجد راحته في النوم. هذا بالإضافة إلى رفضه لتكوين علاقات إجتماعية، فهو يرفض أن يجامل أحد عند الزواج أو أن يعزى عند الوفاة مما اعتبره البعض نوع من التعالى. كما نتبين شخصيات من حوله في عمارة الخبراء التي يسكن فيها، فالجار الذي يسكن فوقه متدين بشكل أقرب إلى التطرف، ولكنه لم يخجل عندما سأله عن ملابس زوجته التى طارت بفعل الرياح. بينما سعاد بنت البواب، فهى لا تقبل المحرمات بالرغم من أنها لم تخجل من نفسها في فترة الصبا عندما كانت تقابل حسين فوق السطوح. بالإضافة إلى حلم الأسقف الغريب من أن الكنيسة تحترق، كل هذا أدى بشكل متدرج وسلس إلى حصد النتيجة للوصول إلى النهاية المأسوية التي تعرض لها حنا. فقد تكتل الجميع ضده، واقتحموا خصوصيته بدافع الأخلاق والدين بينما في باطن الأمر ما حدث ما هو إلا انعكاس لحالة الحسد التى تكمن بداخلهم تجاهه. هذا بالإضافة إلى تأثر الكنيسة حيث تم إلقاء المولوتوف عليها، وكأنها نبوءة حلم بها الأسقف وتحققت. كل هذا أثر بالسلب على الحالة النفسية لـ”حنا” مما جعله يفقد عقله حيث اصطدم بواقع يملأه العبث.

صياد الملائكة

تشير اللحظات الأولى من الرواية “صياد الملائكة” إلى عالم غريب يختلف عن العالم الواقعى الذي يعيش فيه البطل. ربما يعكس العنوان عالم البراءة والخير الذي تسكنه الملائكة، والذي رآه حنا عندما كان صغيرًا بشكل يوحى بأنه ذهب إلى الجنة ونعيمها. وتكمن المفارقة هنا في النهاية حيث يعتقد حنا أن سماء هذه المدينة الملعونة سوف تهطل على رؤوسهم مطرًا من العصافير الميتة، وأن الجميع سوف يموت بسبب رائحتها النتنة، في إشارة إلى غياب الملائكة أو العدالة ليحل محلها الأرواح الشريرة.

ما بين الصراع والشعور بالغربة

تشمل الرواية على مستويات مختلفة من الصراع، ولكن الجلى منها هو الصراع الديني بين المسلم والمسيحي حيث تمت الإشارة في أكثر من موضع كيف يتم النظر والتعامل مع المسيحيين. بينما الأكثر ألمًا هو الحادث الذي تعرض له البطل على يد زملائه في المدرسة حينما أجبروه على نطق الشهادتين لولا السيدة التي أنقذتهم من أيديهم. بالإضافة إلى حديث زميلته الجامعية معه، والإشارة إليه بنبرة “أنتم ” و”نحن” مما جعله يشعر بالغربة على أرض من المفترض أن ينتمى إليها. كما تشتمل هذه النظرة “صفية” التى رفضت أن تبيع نفسها للنصارى على الرغم من عظم الإثم الذي تقدم عليه لولا إقناع منصور لها لما قبلت بالصفقة. من ناحية أخرى، يظهر الصراع الطبقى بوضوح في علاقة حنا وصفية، التي تعقد مقارنة بين المكان الذي تعيش فيه مع أسرتها وشقة حنا الواسعة المليئة بالتراب والرائحة الكريهة. بالإضافة إلى نقم من حوله عليه لأنه يمتلك شقة تطل على النيل، ولكنه يرفض الزواج بينما هم لا يستطيعون توفير حجرة من هذه الشقة.

سارة أبو ريا

(رواية صياد الملائكة)

إقرأ أيضاً:  رواية السيرة الذاتية بين استيعاب الواقع والتعبير عن التأزمات الذاتية


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 رواية صياد الملائكة، الكاتب هدرا جرجس، دار الربيع العربي، مصر، الطبعة الثانية 2014
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

المساعدة العشوائية vs المساعدة الحكيمة

السبت يونيو 10 , 2023
تمت قراءته: 1٬054 مقدمة (المساعدة العشوائية vs المساعدة الحكيمة) الانسان بطبيعته مفطور على الاجتماع وبالتالي مفطور على التعاون والمساعدة، فكما نعلم أن المجتمع مؤلف من مجموع الاجزاء، ولابد لهذه الاجزاء التعاون والتضامن دائما للحفاظ على استمرارية المجتمع، وقد عبر عن ذلك عالم الاجتماع اميل دوركايم بالتضامن الالي والعضوي، فيستحيل وجود […]
المساعدة العشوائية vs المساعدة الحكيمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة